لم تعد الحالة الكرديّة السوريّة شأناً داخلياً خاصاً بالكرد وحسب، (يشكلون قرابة 12 في المئة من عموم السوريين)، ذلك أن طريقتهم منذ ربيع 2011 حتى اليوم في التعامل مع الحدث السوري الاستثنائي، وهم في القلب منه حالهم كحال بقية السوريين، تبدو هي أيضاً استثنائية وجذابة على ما بها من غموض وتلكؤ وعثرات. لقد تحوّل الكرد السوريون من الداخل أكثر مما حولوا غيرهم من الحركات السياسية السورية من الخارج، سواء كانت مدنية أم عسكرية. وإذا كان ثمة طيف نزاع ثقافيّ فكريّ علماني – ديني في غير منطقة سورية، وأكثر الخائضين فيه هم الشباب الذين هم بدورهم غالبية الشعب السوري، من دون أن تكون لهؤلاء قوة وضع قرار وتنفيذه على الأرض طالما بقيت آلة العنف على حالها، إضافة إلى نزاع طائفي عسكري مأسوي يطحن عظام سورية، وهذا ما لا يجب نكرانه وتغليفه برومانسية التعايش السلمي وكذبة الوحدة الوطنية، فإن الكرد السوريين هم الأقل تعرضاً للعنف وهم في الآن نفسه الأقل استعمالاً له إزاء غيرهم، والأكثر مرونة في احتواء البعد الديني ووسمه بميسمهم الخاص.
وإذا كان الإسلام السياسي العنفيّ السنيّ – الشيعيّ قد غدا مشكلة سياسية سورية وإقليمية خانقة، فإن الحال الاجتماعية للكرد السوريين تحول دون استقبال تلك الدراما الدينية الدموية المهلهلة والمفقرة والسخيفة. تقدم التجربة الأقلية الكردية السورية هنا، بمعناها العددي وبعدها الجغرافي والإثني وحالها الاجتماعية الثقافية درساً مفيداً ومحل اعتبار، بعد أن كانت من قبل لأكثر من نصف قرن محلاً لجغرافية مضطهدة ومنبوذة ومحارَبة ومحاصرة. ربما يصلح الأقل هنا لخدمة الأكثر، وقد يبدو مقموع الأمس مفيداً لتائه اليوم. فقد أثبت الأكراد السوريون أكثر من مرة، اشتراكاً نشطاً وواعياً في الشأن السوري العام، وهم إلى ذلك حافظوا على توجه مدنيّ شائك في كلّ حلب ودمشق كذلك، على رغم أن الريف الكردي الحلبي (عفرين وقراها) ومناطق الأشرفية والشيخ مقصود قد نالت ما نالت من تدمير وتهجير كبيرين. وعلى رغم حملات عنف بربرية طاولت حي الأكراد في دمشق، وعلى رغم كذلك كلّ النقد الموجه إلى الفصيل العسكري الأساسي (pyd) وشراسته الهمجية غير المبررة إزاء التعامل مع المجمتع المدني الكردي السوري ولجوئه أكثر من مرة إلى العنف والاعتقال والقتل، وشواهد ذلك أضحت معروفة في أكثر من مكان وزمان، ناهيك عن «نأيه» القسريّ بمعظم الكرد عن الانضمام الحاسم والمكلف للثورة، إلا أنه شكل قوة ضبط وتحكم عامة، وحال دون فلتان الوضع في أكثر من منطقة كردية سورية. يريد النظام السوري، وأمثاله المحليون هنا وهناك، تشويه سكان سورية ومسخهم بالعنف المطلق، ويقدم الكرد السوريون في أكثر من مناسبة اقتراحات مدنية ثقافية هي في الصلب من جوهر التغير السوري العميق؛ «فالأكراد ليسوا فقط أبناء الجغرافية السورية المعقدة والغنية، بل هم صُناع تاريخ فيها، وعاملون في رسم استقلالية لسياستها، وسهولهم المترامية خزان اقتصادها وغذائها، وأخيراً هم مؤثرون في التوازن الإقليمي المحيط بها».
إن النموذج القائم حالياً في الشمال الشرقي لسورية، سواء نُسب إلى الـ (pyd) أو غيره، مع ما يقدمه المجتمع المدني الكردي من رؤى ثقافية متقدمة تتعالى عن الوحل وتتخطاه من دون أن تنسى وجوده، يمكن أن يؤثر في التكوين الإقليمي للأكراد ولمستقبل الكيان السوري، فالمسألة ليست فقط صياغة إقليم فيدراليّ كما في شمال العراق، على ما لا تنجح التجارب المنسوخة نسخاً حرفياً عادة، بل هي الدخول في تعريف لما نفهمه من الشرق الأوسط الجديد، وذلك على خلاف الرسم الدولي الخائب الذي يهوى إنشاء دول مغلقة بحدودها والتحكم بها عبر ديكتاتوريات مضحكة وتسويات مفروضة غير متوازنة سرعان ما تظهر عدم ملاءمتها؛ فالشرق الأوسط يمكن أن يظهر على تحولات جيوستراتيجية هائلة، وعليه يغدو فهم المسألة الكردية على ضوء الحدث السوري الجليل، فتحاً لآفاق تشكيل محور يواجه خلل المنطقة العميق والمعاق إصلاحه، وهو الخلل القديم الجديد في رسم الحدود ومحوها بفعل العنف وحده، واستعمال القوة العارية لا غير، تارة باسم القومية وتارة باسم الدين، وتحويل الحياة المتعثرة والمضطربة والمربكة إلى سياسة واحدة لحياة قاتمة تكتم الأنفاس.