أخذت حرب «داعش» طابعاً جديداً في العنف منذ ان أعلنت الخلافة الاسلامية. طابع الحرب الديني العنصري، بعد ان كان حرباً مذهبية طائفية. والشحنة النفسية التي تخلقها في نفوس الآخرين هي الرهبة. الرهبة من داعش والدولة الاسلامية والمجاهدين الملثمين وفرسان الخلافة، ومن الخلافة ذاتها، من العلم الاسود وما كتب عليه، ومما تسميه بالفتوحات المباركة وغزوات التأديب وكل ما يواكب حربها في العراق وسورية.
اليوم نرى على الشاشات الصغيرة كيف تتم فتوحات الدولة الاسلامية من طريق الذبح والإذلال وسبي النساء وسرقة الاملاك والأموال. هناك صور لمواقع مر بها فرسان الخلافة. ثمة شهادات لمن فروا قبل مرور الفاتحين او عانوا من السحق والإذلال ولم يُقْتلوا كي يشهدوا امام كل من يريد ان يقاوم تقدم الدولة الاسلامية. اليوم نشاهد فتيات يزيديات في قفص يباع من فيه في سوق الموصل.
«الإيزيديون»، كما يسمون انفسهم منذ قرون وهو الاسم الكردي المنبثق من كلمة يزدان الايرانية القديمة وتعني «الاله، الخالق، الله». تاريخهم غير معروف كثيراً وبالاخص المذابح الجماعية التي تعرضوا لها على يد الأقوام والحكومات الاسلامية غير معروف، منذ ظهورهم في التاريخ الاسلامي بالاسماء العربية التي عرفهم الجميع بها: اليزيدي، اليزيدية، اليزيديون.
أكثر الظن أن اليزيديين تبنوا المعتقدات السنية المحافظة والمؤمنة بموقف الجماعة. ولا دراسة حتى الآن تختلف في مسألة كون احد منابع اليزيدية هي الطريقة العدوية وشيخها عادي بن مسافر (1072 – 1162). فاليزيدية في بعض مظاهرها المعروفة منذ قرون ولدت بعد هذه الفترة. الاسماء والصور التي التصقت بها اسماء عربية رغم ان لها جذوراً تتجاوز من دون شك ظهور الاسلام. ولنا شهادات تعود الى اكثر من قرنين نراهم يحاولون فيها ان يقنعوا من يستمع اليهم من المبشرين بخطأ ما كان المسلمون يقولون وينشرون عنهم وحتى تسميتهم. واذا الصقهم العالم الاسلامي القديم بصورة يزيد بن معاوية (645 – 683)، وقدمهم كحراس شخصيين له، فان الاسلام المعاصر جعل منهم احفاد يزيد الذي يكرهه الشيعة لقتله الحسين ويرى فيه السنّة إماماً، رغم انهم يحبذون عدم الحديث عنه.
ما تركه لهم مؤسس الطريقة العدوية وقديس اليزيديين الشيخ عادي، والذي ولد بعد موت يزيد بن معاوية بأربعة قرون، هو نبذ اللعنة. فهم لا يلعنون كائناً من كان، حتى الشيطان. انهم ليسوا عبدة الشيطان وإنما لا يشاطرون الآخرين اللعنة التي انزلتها الاديان عليه. مِنْ هنا تبنوا فكرة عادي بن مسافر وصارت معتقداً عندهم. وكانت مسألة الشيطان في تلك الفترة من القضايا التي يتحدث الفقهاء والفلاسفة المسلمون عنها ويكتبون الكثير حولها.
والمسألة الاساسية التي التصقت بهم هي فكرتهم حول الشيطان وصورته. وهي تتعلق اساساً بقضية وجود الشر وكأنه خارج عن ارادة الاله وقدرته على كل شيء. وتتجسد المسألة كمشكلة لأول مرة في تاريخ الانسان، وحسب الاديان، في لعنة الله للشيطان وأسبابها وتأثيرها ونتائجها على بني آدم والحكمة منها. وكموضوع فكري قابل للمناقشة شغلت المسألة الكثير من العقول. يذكر المفكر العراقي علي الوردي في كتابه «مهزلة العقل البشري» سبعة اسئلة صاغها الشهرستاني (1088 – 1153) على لسان ابليس اعتراضاً على اللعنة التي خصه الله بها والحكم الذي تبع اللعنة. وكل هذه الاسئلة تبدأ او تنتهي بـ»لماذا»، وتتوجه الى الله.
فهو يسأل الله لِمَ خلقه وهو يعرف ما سوف يقوم به؟ وما دام خَلَقه بإرادته ومشيئته فلماذا كلفه بمعرفته وطاعته وهو لا ينتفع بطاعة احد ولا يتضرر بمعصيته؟ وهو اذ خلقه وكلفه بعدم السجود لغيره فالتزم تكليفه فلماذا كلفه بعد ذلك بالسجود لآدم؟ ولماذا دانه وهو لم يرفض له امراً غير السجود لغيره، تماماً كما التزم بذلك قبل خلق آدم؟ لماذا سمح له بخداع آدم وإخراجه من الجنة، فحرم هكذا ابناءه من الجنان حتى يوم الدين؟ ولماذا ابقاه حياً الى يوم القيامة وسلطه على بني آدم بحيث يراهم ولا يرونه، فيُدْخل الخوف والرهبة في قلوبهم وحياتهم؟ لماذا لم يهلكه رأساً فينقذ الانسان من وسوسته ومؤامراته ودسائسه؟
فبالإضافة الى وصف الشهرستاني لكلمة «لماذا» بالرعناء وجعلها سبباً لكل شبهة دخلت عقل بني آدم منذ الخليقة، يذكر الوردي ايضاً جواب الله على حجج ابليس، كما ذكره الشهرستاني، «لو كنت يا ابليس صادقاً مخلصاً في الاعتقاد بأني الهك واله الخلق ما احتكمت عليَ بكلمة لماذا؟ فأنا الله لا إله الا أنا، غير مسؤول عما افعل، والخلق كلهم مسؤولون».
الاسئلة التي طرحها ابليس اوجدت جوابين رئيسيين. اولهما، كما يذكر الوردي، الجواب الذي يقول انه لا يحق الاعتراض على ارادة الله او مناقشة حكمه. ويتبنى الجواب الثاني حق الاعتراض والمناقشة. وهذا ما يقود اصحابه الى رفض الرواية المدونة حول الموضوع في الكتب الدينية.
أما اليزيديون فلهم موقف ثالث ولا نعرف بوضوح من اين جاءهم، وهو ان الرواية الدينية صحيحة ولكن الجواب الديني يضع الانسان في حيرة ولا يرتقي الى مستوى الاسئلة. وهذا ما يستغربونه على عظمة الله وقدرته. ويرون ان الحكم الذي صدر مصدر استغراب، بخاصة أمام العدالة الالهية. فالإنسان يدفع ثمناً باهظاً. ويتوصل اليزيديون الى نتيجة ان هناك سوء تفاهم بين الله وابليس، رئيس الملائكة وأحبهم اليه. فمن مصلحة الانسان الا يتدخل في الموضوع وان يترك الامر لحل في المستقبل بينهما. وعلى الانسان ان يهاب الشيطان ومخاطره فيحاول استمالته لا الوقوف بوجهه ولعنه.
هذه الفكرة التي اصبحت معتقداً دينياً لدى اليزيديين كلفتهم الكثير من المجازر الدموية والسبايا التي اقترفها جيرانهم بحقهم عرباً كانوا ام اتراكاً او اكراداً او فرساً. وفي كل مجزرة يتكرر السيناريو ذاته: قتل الرجال، سبي النساء، سرقة الاموال وهدم الاماكن المقدسة لديهم. وكل ذلك تحت شعار الجهاد في سبيل الله والاسلام. ولكن دوافع اخرى كانت وراء تنظيم المجازر لابادتهم. بخاصة ان قتل اليزيدي لا يعاقَب عليه الجاني لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة. وقد استمر بعض المجازر فترات طويلة.
لقد دفع اليزيديون ثمن جواب عن اسئلة قد يكون الشيخ عادي صاحبها بخاصة وهو معاصر للشهرستاني ومؤسس فكرة نبذ اللعنة. فكانت النتيجة ان قليلاً من اجيال اليزيديين لم يتعرض لمجزرة. كم من اليزيديين يعرفون اليوم ان السبب الاول وراء الحملات لإبادتهم انما هو كلمة «لماذا»؟