تقع المدينة على بُعْد عشرة أميال من الحدود الايرانية وتشكل احد اهم المعابر بين العراق وإيران. تقول الاسطورة إنها سمّيت بخانَقين أي «خان الأحزان» لأن النعمان بن المنذر (582-609) ظل سجيناً فيها حتى وفاته. غالبية سكانها يتحدثون الكردية وفيهم جزء يتكلم التركمانية. ويجيد كثيرون منهم العربية الفصحى، إلا أن اللغة الدارجة في أسواقها ومعاملاتها لهجة كردية ذات امتدادات في الجهة الإيرانية من الحدود. والكل يفخر بمعرفة اللغات الأخرى المتداولة بين السكان.
في الستينات من القرن العشرين، كانت في المدينة سبعة او ثمانية جوامع سنية وحسينيتان شيعيتان وكنيسة. ولا أحد يعرف ما السنّة وما الشيعة، لقلة الاهتمام بالأمر. الكل كان على علم بأن إمام الجامع الفلاني متعصب في توجهاته الدينية لتأثره بحركة «الإخوان المسلمين» الجديدة على الناس. كانت خطاباته معادية للشيوعية ولكل مظاهر التطور والانفتاح، تحديداً للسفور والفساتين القصيرة. ومن سوء حظه أن بناته كنّ أولى السافرات في المدينة، من دون أن يجرؤ على معارضة سفورهن لأن رواتبهن كمعلّمات كانت تفوق راتبه كإمام جامع. ولم يكن السكان يمنعون انفسهم من إشعاره بذلك كلما تعالى صوته ضد سفور بنات الآخرين.
كانت أجمل لحظات الجوامع السنّية حين يملأ دراويش الطريقة القادرية شوارع المدينة بصوت طبولهم وهم فوق الباصات الغريبة في ألوانها والصور المرسومة عليها، بشعرهم الطويل ومظهرهم القريب من الشحّاذين المجانين، ونظراتهم الوقّادة التي تحدّق في كل ما في المدينة مما لا يجدونه في قراهم الكردية النائية. فيتوجه الناس الى الجامع الذي ينزلون فيه، ويبدأون بحركاتهم وغنائهم وضرب طبولهم وإدخال السيوف والخناجر والأشياش في أجسادهم وفي أكل الزجاج وما شابه ذلك من صور تثير وتخيف. وغايتهم من ذلك أن يقنعوا الناس بأن من يؤمن بالله يحميه الله من آلات القتل، ومن الموت تالياً.
وأجمل اللحظات الدينية وأكثرها استقطاباً للسكان وأطولها وقتاً، كانت أيام عاشوراء والاحتفالات التي تواكبها ويشترك فيها السنّة بعددهم الذي يفوق عدد الشيعة. وحيالها كانوا ينقسمون هم ايضاً جماعتين مثلهم مثل الشيعة المنقسمين بين الحسينية المركزية الغنية والحسينية الشمالية الفقيرة. فالأغنياء السنّة وثيقو الصلة بالحسينية المركزية ويشاركونها السخرية من إمام حسينية الفقراء والطبقات المتوسطة. وهؤلاء كانوا يحبون إمامهم الشيخ مراد، الحاضر دائماً في أحاديثهم، على رغم إدراكهم أن مواهبه الخطابية والغنائية لا تنافس قابليات الآخون (كما يسمّى الملا القارئ الشيعي في المدينة وباللغة الفارسية) الذي تأتي به الحسينية المركزية من النجف وفي مقابل أجر باهظ، كي يقص على الناس مأساة الحسين في مواجهة جيش الشمر ويستذرف الدموع ويهيج الحضور بكاءً معه. فحين وجد الحسين نفسه وحيداً، محاطاً بأعدائه، اخرج الإمام سيفه وهجم عليهم فقتل منهم ألفاً، فقطعوا يده اليمنى. فأخذ السيف بيده اليسرى وقتل منهم ألفاً، فقطعوا يده اليسرى. فأخذ السيف برجله اليمنى وقتل منهم ألفاً، فقطعوا رجله اليمنى. وأخذ السيف برجله اليسرى ليقتل ألفاً منهم، فقطعوا رجله اليسرى. ولم يبق للإمام غير فمه، فأخذ السيف بفمه وقتل منهم ألفاً. عندئذ قطعوا رأسه. هنا يتعالى بكاء الآخون بصوته الحنون المؤثّر ومعه بكاء الحاضرين وصياحهم، وكل يتمنى ان يكون مع الحسين على الأقل ليمسك بلجام الحصان فيما الحسين يقاتل بسيف بين أسنانه ومن دون يد او رجل كي يمسك باللجام… (يلتقي صياح الحاضرين الرجال، الشبان منهم بخاصة، الذين في الطابق الارضي، وصياح النساء، الشابات منهن بخاصة، اللواتي في الطابق السطحي، كما تلتقي نظراتهم ومن ورائها أحساسيس تعصف بهم).
ومع هذه الصورة المؤثّرة، فإن الناس، سنَّةً وشيعةً، كانوا يفضلون خطب الشيخ مراد، على رغم انهم كانوا يخونونه أحياناً حين يندسّون خفية في الحسينية الغنية، للاستماع الى الآخون او لتبادل بعض النظرات مع امرأة هناك. لكن إحساسهم بالذنب كان يعيدهم الى شيخهم الذي لم يكن يبخل بزجر الحاضرين وهم يستمتعون بما يرويه لهم من حكايات الأقدمين، كقصة الإمام علي وهو على ظهر حصانه دُلدُل سائراً في الصحراء والذي يتوقف فجأة عن السير وعيناه تنظران من دون حركة الى صخرة أمامه. هكذا ينزل الإمام لدفع الصخرة جانباً، لكن الصخرة تأبى كل حركة. وأخيراً يرفع الصخرة الى ركبته ويرمي بها جانباً، ويعود الحصان الى سيره الطبيعي. وهنا كان الشيخ يسأل الحاضرين إن كانوا يعرفون ماهية الصخرة، فيصيح الجميع بصوت واحد: كلا يا حضرة الشيخ. فيقول الشيخ وهو فخور بعلمه، غاضب من جهل الحاضرين: أيها الجهلة، كانت الصخرة هي الكرة الأرضية. فيبهت الحاضرون ويفاجأون وينادون: «اللهم صلّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم، محمدَ الصلوات». ثم يسأل الشيخ ما إذا كان ثمة من يريد ان يسأل سؤالاً. ويطلب أحدهم الإذن فيهزّ الشيخ رأسه موافقاً: الشيخ العزيز، اين وضع الإمام علي رجله حين رفع الكرة الأرضية الى ركبتيه؟ فيهيج الشيخ غضباً من السؤال ويصيح به: ايها الكلب…، ثم يشتم أمّه ويطالب بإخراج «هذا الحيوان» من الحسينية. ولن يشفع للمسكين صياحه من أن مَن دفعوه الى السؤال هم الذين يضربونه كي يخرجوه من المكان، نزولاً عند امر الشيخ…
بقيت تلك القصة ومئات اخرى مثلها في ذاكرة المدينة. وإذا سألَ سائل اهلها الذين عرفوا الشيخ وأدخلوه كتبهم وأبقوه في ذاكرات قلوبهم حتى يومنا هذا: ما هو أجمل ما بقي لديهم من مظاهر الإسلام في المدينة؟ لأجاب الجميع من دون تردد: الشيخ مراد.