السادة والسيدات في ادارة راديو ارتا المحترمون
السادة والسيدات ممثلو القوى والاحزاب ومؤسسات المجتمع المدني
السادة والسيدات الحضور
مساء مباركا، روج باش، رمشو بريخو
إنه لمن دواعي سروري واعتزازي أن أمثل المنظمة في هذا الحفل الكبير، وهذه المبادرة الرائعة التي قام بها راديو “ارتا اف ام” لتكريم قامة وطنية كبيرة كرست حياتها لخدمة قضية شعبها ووطنها، هذه المبادرة التي تعزز ثقافة تكريم من يستحق التكريم في حياته وليس بعد مماته، اعترافا بفضله ومآثره وتضحياته، وليس ذلك منة منا عليه بل واجبا وحقا، واعتقد ان علينا ان نمتلك موهبة الوفاء لهؤلاء الاشخاص الذين يؤدون دورا تاريخيا بتكريم يستحقونه، وفي هذا المجال قال الشاعر جكرخوين لبعض من أصدقائه :”انني اعرف انكم ستكرمونني بعد مماتي وستنشرون الوردو على قبري، ولكن وقتها للأسف لن تبصر عيناي هذه الورود”، وقال قبله بمائة عام الملفان نعوم فائق: “إن وردة توضع على صدر الانسان في حياته أفضل من أكاليل ورد على قبره بعد مماته”.
وأمام مناسبة كبيرة كهذه اريد لي خلالها تقديم كلمة شهادة بحق هذا الرجل اشعر بعبء ثقيل، لأن زمنا محددا بدقائق قليلة لا يمكن ان نوفيه به حقه والغوص في أعماق بحاره، فنحن أمام إنسان حقيقي حظي بمواهب وتجربة انسانية عميقة، سخره القدر لمواجهة المهام والخيارات الصعبة والقضايا الكبيرة، واجهها بايمان ومسؤولية وحكمة وواقعية منذ شبابه وحتى شيبه دون انقطاع خطوة بخطوة ولحظة بلحظة.
كان لي شرف التعرف عليه عشية انتخابات مجلس الشعب للدور التشريعي الخامس لعام 1990، تعززت هذه العلاقة خلال اربعة سنوات قضيناها سوية في رحاب المجلس، اتيحت لي فرصة ثمينة لمشاركته مع لفيف من زملاء آخرين في أنشطة ومناسبات عديدة في المجال السياسي والاجتماعي، كانت بداية لفتح بوابات مشرعة لعلاقات متينة بين الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي والمنظمة الآثورية الديمقراطية، ومجمل الحركة الوطنية الكردية، انعكست هذه العلاقة ايجابا على علاقات شعبينا الكردي والآشوري السرياني، بكسرها لحواجز نفسية تراكمت خلال مراحل سابقة لأسباب معروفة موضوعية وذاتية، ترجمت هذه العلاقات لاحقا في عدة محطات سياسية، واستحقاقات انتخابية وتحالفات سياسية عبر مختلف الأطر الوطنية القائمة.
وأرى من الانصاف القاء الضوء على جانب من صفات شخصية وفكر هذا الرجل الكبير
آمن الاستاذ حميد درويش بالفكر الديمقراطي الذي شارك مع رفاقه المؤسسين الأوائل للحزب الكردي الأول (حزب الديمقراطيين الأكراد) في جعله مبدأ أساسيا لمنطلقاته، والتزم به التزاما عميقا فكرا وممارسة، الديمقراطية بما تعنيه من عناوين: حرية الرأي، حرية الفرد، المساواة التامة بين الرجل والمرأة، مبدأ المواطنة المتساوية، شرعة حقوق الانسان، الحقوق القومية المتساوية لكل المكونات، والعلمانية.
كما التزم مع حزبه بثلاثية ربطت عضويا البعد القومي بالبعد الوطني والديمقراطي، عبر تماهي الهوية القومية لأكراد سوريا مع الهوية الوطنية السورية، وحل قضية الشعب الكردي القومية بسوريا مرتبط بحل المسألة الديمقراطية وبمجمل القضايا الوطنية السورية، كونها قضية وطنية سورية بامتياز، وحلها أولا وأخرا هو في دمشق وليس في مكان آخر، حالها حال قضية الشعب الآشوري السرياني وقضية المكونات القومية السورية الأخرى.
كما التزم مع حزبه بنهج النضال السلمي والحوار سبيلا لتحقيق الاهداف، والاعتدال في الافكار والمواقف، الاعتدال الذي ربما فهمه بعض المغالين ضعفا وترددا ومنطقة رمادية، وهو حقيقة اصعب الخيارات، يتطلب كثيرا من الصبر والشجاعة، والمرونة السياسية، بخلاف التطرف الذي هو اسهل الخيارات، لأنه وليد الجهل وقرين الحماقة، الاعتدال الذي يتطلب شعورا عميق بالمسؤولية، وبكونه فنا رفيعا من فنون السياسية لا يتقنه الا امثال حميد درويش والقول هنا للمفكر جاد الجباعي.
تميز الاستاذ حميد بصفات انسانية قل ان تجتمع في الرجال، الكرم، الحكمة، الشجاعة والجرأة في الرأي والمواقف، تميز بتواضعه ودماثة خلقه وصراحته في التعامل مع الآخرين، تميز بحسن الاستماع واحترام الرأي الآخر. ساهم في اخراج الحركة الكردية من عزلتها بالانفتاح على الآخر، من خلال لغة الحوار التي اتقنها. تميز بموهبة سياسية فريدة، وهي توقع حدوث الحدث والاستعداد للتعامل معه قبل حدوثه، وهذه من مميزات السياسي والقيادي الناجح، وهنا لابد من الاشارة لرسالته الشهيرة والجريئة للرئيس بشار الاسد قبل اندلاع الثورة بشهور، وشرحه خلالها للوضع الخطير الذي تشهده المنطقة واحتمال تداعياته على البلاد ودعوته له لتجنب أية هزات بالبلاد بالمبادرة الفورية للاصلاح السياسي عبر عقد مؤتمر وطني عام وإلا فان نعيق البوم سيأتي على البلاد، وهذا ما حدث للأسف. “فهو بحق رجل المستقبل في الحاضر، ورجل الحاضر في الماضي” وهذه العبارة للاستاذ حسن ظاظا.
عرفته خلال جلسات مجلس الشعب الرسمية وفي كل اللقاءات مع المسؤولين ومع القوى السياسية السورية مدافعا جريئا عن قضية شعبه، وعن قضية العدالة والديمقراطية والحريات في سوريا، عرفته مساهما بارزا في فتح بوابات تواصل بين الحركة الكردية ومجمل الحركة الوطنية السورية ساهمت في تكريس للخط الوطني للحركة الكردية في سوريا، تحمل من أجل ذلك حملات من النقد والتجريح من قبل الغلاة والمتطرفين، دون أن يدفعه ذلك للانسياق لحالة شعاراتية شعبوية زائفة، بل على العكس فان قناعاته وافكاره الوطنية ازدادت رسوخا وتماهيا مع سوريته وكورديته، لدرجة قيل عنه انه سوري اكثر من كرديته وكردي اكثر من سوريته، ولذلك ليس غريبا ان ينظر اليه كواحد من دعائم الوحدة الوطنية، مهد لكل ذلك خصاله الحميدة وشخصيته الكاريزمية الجذابة والمحبوبة واتقانه لغة الحوار، وكفاءته في تسيير الأمور ودفعها نحو نقاط التفاهم والالتقاء. وكانت آخر تجليات عمق ومصداقية فكره وهمه الوطني المنفتح على جميع مكونات الوطن، مبادرته التي طرحها على المنظمة الآثورية وشاركته التحضير لنقلها لرحاب الواقع، والتي تجلت بعقد المؤتمر التأسيسي الأول لملتقى الجزيرة الوطني الذي هدف ليكون إطارا وطنيا واجتماعيا جامعا وسياجا حاميا للسلم الأهلي بالجزيرة.
ولابد لنا بهذه العجالة من ذكر بعض من محطات لمواقف مميزة كان لهذا الرجل مساهمات وبصمات فيها، وقبلها لابد من الإشارة إلى التربة التي نبتت فيها هذه الشجرة اليانعة، وأقصد بها عائلة حاج درويش، التي أعطتنا دروسا في الوطنية والتعايش الأخوي بين شعبينا قبل أن تنشأ أحزابنا وايديولوجياتنا.
فقد استضافت هذه العائلة الكريمة بالعشرينات في قريتها “القرمانية” مئات من عوائل النازحين السريان هربا من السلطات التركية بعد مجازر “السيفو”، فلقوا من هذه العائلة الترحيب والرعاية وتقديم كل مستلزمات الحياة في القرية، قبل أن ينزحوا الى مدينة الدرباسية بعد نشأتها عام 1925، وأكملت هذه العائلة مأثرتها في المشاركة بحماية سكانها السريان والدفاع عنهم إثر خطة لهجوم عدواني كان معدا من قبل بعض من المجموعات المتطرفة عام 1946، فيما عرف ب”طقة الباطرية”. حيث لازال اهالي الدرباسية في كل مكان يذكرون هذا الموقف بتقدير وامتنان.
والمحطات التي لابد من ذكرها رغم كثرة العديد غيرها:
في عام 1996 نشر رفيقنا سعيد لحدو بحثا بعنوان “مذابح السريان الآشوريين والمسؤولية الكردية”، نتج عنها موجة من التخوين والتشكيك والغضب من قبل عدد من الأوساط الحزبية والشعبية الكردية، ولكن الاستاذ حميد عالجها بطريقته البناءة الخاصة، حيث دعى الكاتب لكي يلقيها في ندوة خاصة أعدها ودعى لها مجموعة من المثقفين والناشطين من مختلف المكونات، وطبع على نفقته مجريات هذه الندوة بكتاب بعنوان “التيه ومسالك الحكمة”، ضمنها مداخلته الجريئة والشهيرة التي اعتذر فيها عن مشاركة بعض من القوى الكردية بمذابح “السيفو” التي استغلت السلطات التركية اطماعهم ومشاعرهم الدينية ابشع استغلال، ان مثل هذا الاعتذار انما ينطوي على شجاعة فائقة، لايملكها سوى القادة الذين يتمتعون بحس عال بالمسؤولية، ويؤسسسون للمستقبل وبناء غد افضل قائم على اسس الشراكة ومبادئ العيش المشترك.
كذلك يشعر شعبنا بالامتنان للدور الهام الذي قام بها الاستاذ حميد في وأد الفتنة واحلال السلام في حادثتين مؤسفتين، الآولى فيما عرف بحريق سجن الحسكة وخلفياتها وتبعاتها عام 1993، والثانية حادثة مقتل الشاب الكردي “جوان” في مدينة المالكية عام 2007. حيث كان له دور هام في إدارة الازمة بحكمة وعقلانية بعيدا عن العواطف والمشاعر، بل بمنطق السياسيين الكبار.
وكذا الحال اثناء احداث ملعب الجهاد بالقامشلي 2004 التي كان يراد منها احداث فتنة كبيرة يكون الشعب الكردي ضحيتها، استطاع وبشجاعة ان يقف موقفا صارما ضد كل من كانوا يقفون وراء هذه الفتنة من السلطة، وتهدئة الوضع على الجانب الكردي إدراكا منه بخطورة الحدث على القضية الكردية وتداعياتها المستقبلية.
ولا يمكننا إلا أن نذكر له بامتنان مبادرته النبيلة في مؤتمر للاشتراكية الدولية عقد في جنيف صيف العام الماضي، بالمطالبة بحقوق الآشوريين السريان في سوريا إلى جانب حقوق الأكراد، بل تأكيده بأن الاكراد يعانون من مظلومية قومية ولكن الاشوريين السريان يعانون من مظلومية مضاعفة، قال ذلك بمبادرة منه في غياب أي ممثل عن الآشوريين السريان، وهنا تكمن المصداقية الحقيقية وترافق القول والفعل، وعندما سئلت من البعض هل حضرت المنظمة هذا المؤتمر أجبتهم على الفور نعم وكان ممثلها الاستاذ حميد درويش.
ختاما أود أن اقول أن شخصية الاستاذ حميد وأفكاره وأعماله لم تكتمل لولا المساندة والدعم من قبل من وقف معه، في السراء والضراء في مشواره النضالي الطويل والشاق، زوجته الفاضلة ليلى وبناته عائلته، وعائلته أعماما وأخوة وأخوات، وعائلته الأكبر حزبه الذي شارك في بنائه قيادة وقاعدة، الذين تماهوا مع روحه وأخلاقه وأفكاره وترى فيهم جميعا صورة حميد درويش.
وأود أن أقول أيضا لكل ما تعرفونه جميعا عنه وما قيل فيه من شهادات ضمنها الأستاذ ميداس آزيزي في كتابه “عبد الحميد في الذاكرة الوطنية”، أن الأستاذ حميد كان وسيبقى بوصلة أمان لمجتمعنا، كان وسيبقى رمزا وأيقونة خالدة، ليس للأكراد فقط، وليس لحزبه وعائلته فقط، بل رمزا وايقونة وطنية سورية ملكا لجميع السوريين.
تحية لكم جميعا وشكرا لاستماعكم
عامودا في 6 تموز 2017
بشير سعدي- عضو اللجنة المركزية للمنظمة الآثورية الديمقراطية