الأميركية السابقة، السيدة هيلاري كلينتون، في 8 آب (أغسطس) 2011 بمكتبها في الخارجية الأميركية، بدا لي حماسها مطلقاً لدعم المعارضة السورية بكل ما تحتاجه لنجاح معركتها ضد النظام. لكن حماسها واندفاعها لنصرة الثورة السورية اصطدما وقتها بنوايا البيت الأبيض الغامضة، حيث رفض أوباما تسليح المعارضة رفضاً باتاً، على رغم أن الجيش الحر يومها كان الفصيل المسلّح الوحيد مقابل قوات النظام، ولم يكن هناك لا «داعش» ولا «حالش» ولا مسلحون أجانب ولا متطرفون عقائديون ولا قتلة على الهوية.
أما قرار تسليح المعارضة الذي وقعه الرئيس الأميركي بعد ثلاث سنوات من اندلاع الثورة، وسقوط ما يقارب ربع مليون ضحية، فلا نعرف آلياته ووجهته ولماذا تأخر إلى الآن؟ هل تسليح المعارضة اليوم يهدف إلى تعزيز قوتها لمواجهة «داعش» أم لإسقاط النظام؟ وهل قام أوباما بهذه الخطوة لاستعادة شعبيته وشعبية حزبه التي تراجعت بشكل غير مسبوق في الشارع الأميركي بسبب تعامله مع الوضع الأمني الدولي الذي فرزه تنظيم «الدولة»؟ وهل سيستعمل أوباما المعارضة السورية، التي سيدربها ويسلحها، ليعوّض بها عن جنود أميركيين على الأرض كان قد وعد شعبه بألا يرسلهم أبداً إلى سورية أو العراق؟ وكيف سيواجه أوباما الرأي العام واستطلاعاته المتهاوية في تقييم سياساته، لا سيما بعدما أصدرت شخصيتان قياديتان ونافذتان في إدارته كتباً تنتقد بشدة سياسته التي كانا في مواقع المسؤولية من دوائرها؟
لعل الضجة الإعلامية والسياسية التي أثيرت في الولايات المتحدة قبيل إطلاق كتاب هيلاري كلينتون الجديد الذي يحمل عنوان «الخيارات الصعبة» ترجع إلى ارتباط تاريخ إصداره بقرب الإعلان عن إنطلاق الحملة الرسمية للسيدة كلينتون للانتخابات الرئاسية في 2016. وجاء الكتاب في أجزاء خمسة وخصصت الجزء الخامس لتحدّد موقفها من أحداث الربيع العربي وثورات تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية، وكذلك الاقتتال في سورية، وأسرار السياسة الإيرانية، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي وكيف تمّ التوصل إلى هدنة هشة بين الجانبين العام الماضي.
تشير كلينتون الى أنها طالما نأت بنفسها عن توجهات إدارة أوباما أثناء ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011، مشيرة إلى أنها ناشدت آنذاك الرئيس حسني مبارك البدء بعملية انتقال منظم للسلطة في مصر، وأوضحت أن تلك المناشدة أُجهضت إثر مطالبة أوباما لمبارك بالتنحي عن منصبه. وتسلّط كلينتون الضوء على الانقسام الذي شهدته الإدارة خلال الأيام المحمومة من الاحتجاجات الشعبية في 2011، والمسار المضطرب الذي عاشته مصر منذ إطاحة مبارك وفترة حكم الإخوان المسلمين قبيل ثورة 30 حزيران (يونيو). وتضع نفسها مع الحرس القديم في البيت الأبيض من أمثال جو بايدن ومستشار الأمن القومي توم دونيلون ووزير الدفاع روبرت غيتس، الذي كان على خلاف مع مساعدي الرئيس الأميركي من دائرته الضيقة.
تقول كلينتون إنها كانت حريصة على التمسك بحليف قوي مثل مبارك وعدم دخول مصر وإسرائيل والأردن والمنطقة في مستقبل مجهول. وتشير الى أن من أهم أسباب سعيها للحفاظ على علاقات قوية مع الرئيس المصري الأسبق الحاجة لعزل النظام الإيراني، وضمان استمرار الملاحة في قناة السويس، ومكافحة الإرهاب في المنطقة، وحماية إسرائيل، وإفشال مخططات «القاعدة» في الترتيب لعمليات إرهابية جديدة.
أما وزير الدفاع ورئيس وكالة الاستخبارات الأميركية الأسبق، ليون بانيتا، فأصدر، بعد كلينتون، كتابه الذي يحمل عنوان «حروب تستحق خوضها»، وهو أقرب إلى المذكرات التي دوّنها خلال فترة عمله في إدارة أوباما، حيث انتقد رئيسه بشدّة واتهمه بخلق فراغ في العراق، إثر أمره القوات الأميركية بالانسحاب الكامل، وهو فراغ سمح لتنظيم «الدولة» المعروف بـ «داعش» بالصعود والتغلغل في الفراغات الأمنية التي خلّفها.
وجاءت انتقادات بانيتا لاذعة وقاسية على عكس الصبغة الديبلوماسية التي اصطبغت بها مذكرات كلينتون، كون الأخيرة تريد الاحتفاظ بشعرة معاوية مع موقع الرئاسة إذا ما ترشّحت لمنصب الرئيس في 2016. ولم يتوان بانيتا عن توجيه اتهام مباشر لإدارة أوباما بأن معظم قراراتها الكبرى كانت «مركزية»، بمعنى أن أهل البيت الأبيض هم من يتحكمون بصيغتها وبآلياتها. ويشير بانيتا إلى أن المركزية في صنع القرار تعتبر حالة استثنائية وشاذة في الموروث السياسي الأميركي لم تشهدها الإدارات السابقة.
ولا ينسى بانيتا أن يهزأ من ضعف أوباما ومناوراته لتجنب المواجهات أو المعارك، وكذلك صفة التردّد التي لازمت سياسته وأدت إلى إضاعة الكثير من الفرص في حسم الأمور في الوقت المناسب. ويستذكر في هذا الشأن «الخط الأحمر» الذي رسمه أوباما للنظام السوري إذا ما لجأ إلى استخدام السلاح الكيماوي وتراجعه عن ضرب قوات الأسد حين تجاوز هذا الخط!
مذكرات بانيتا وكلينتون، وقبلها مذكرات روبرت غيتس وزير الدفاع الأميركي في عهد أوباما الأول، لاقت إقبالاً منقطع النظير وتصدّرت قوائم الكتب الأكثر مبيعاً في الأسواق الأميركية، لأن الشعب الأميركي يريد أن يعرف حقيقة ما يدور في كواليس البيت الذي وصل إليه الرئيس الأكثر شعبية في تاريخ أميركا حين انتخابه في 2008. المبيعات العالية لتلك الكتب حدت بالصحافي الشهير ديفيد إغناتيوس لأن يكتب في «واشنطن بوست»: «ربما كان من المفيد لأوباما أن يوقّع مع كبار مسؤوليه حين يؤدون القسم للعمل في إدارته اتفاق مشاركة في حقوق نشر مذكراتهم».