لم يكن تدمير سجن تدمر، وهو السجن/ المحرقة الذي غيّبَ خلف جدرانه أغلب الأصوات السورية الحرّة وقد ارتفعت بصرخة لا لاستبداد حافظ الأسد ومن بعده ابنه بشار، لم يكن إلا دليلاً قاطعاً لمن لا يزال يساوره الشك، من الدول والأفراد، بأن تنظيم الدولة ليس سوى منتج خبيث من تفريخ الاستبداد النظامي السوري. فتدمير سجن تدمر بهدف إزالة موقع جريمة العصر التي ارتكبها الأب والابن ضد كبار مفكّري وأحرار سوريا، وكذا ضد العديد من أحرار دول الجوار الذين شاءت الظروف أن يقعوا فريسة مخالبهما، لهو أكبر دليل على العلاقة العضوية الرابطة بين النظام والتنظيم، ويصبّ مباشرة في مصلحة كل من شارك في تلك الجريمة التي انسحبت فصولها الدموية على مدى عقود من الزمن شهد السجن خلالها واحدة من أبشع أعمال الإرهاب المنظم وحشية تمثّلت في إعدام انتقامي من ما يقارب الألف سجين رمياً بالرصاص على يد جنود سرايا الدفاع التي كان يقودها شقيق الأسد الأب، رفعت الأسد، وذلك في تاريخ 27 يونيو 1980، هذا ناهيك عن الإعدامات اليومية المتفرّقة «حيث كان الجلادون يضعون اللاصق على فم المحكوم، حين يُساق لتنفيذ الحكم، لمنعه من تلفّظ الشهادة أو التكبير» اقتباساً من رواية «القوقعة» لمصطفى خليفة، وهو كاتب وفنان سوري مسيحي، ليس لديه أي توجهات سياسية، قبض عليه الأمن السوري في مطار دمشق حين كان عائداً من باريس، وأمضى 13 عاماً في السجن بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين! مصطفى هو الشاهد والشهيد الحيّ على ذلك المكان الجهنمي، الذي يكاد أن يكون آخر وأسوأ سجن سياسي في العالم، زرعه الحقد الأسدي المفترس في عقر مملكة الحضارة البشرية.
وليس التناسق بين تحرّكات النظام السوري المتهاوي، وتنظيم الدولة المستأسد، إلا تحصيل حاصل لهذه العلاقة التبادلية ذات النهج التطهيري، وتطبيقاته العسكرية، لدى الطرفين. فتقدّم تنظيم الدولة واحتلاله مدينة تدمر التاريخية وأقضيتها لم يكن على مشهد من جنود النظام السوري وحسب، بل حدث إثر انسحاب مبرمج لقوات النظام على أنغام أغنيات علي الديك التي كانت تصدح من سيارات الدفع الرباعي العسكرية تغادر المكان بسرعة عادية وفي رتل منتظم تاركة ثروة سوريا التاريخية لمصيرها بين يديّ تتار العصر. لم يستعمل النظام لصدّ الهجوم على تدمر البراميل المتفجّرة كما يستخدمها يومياً في عشرات الغارات على مدنيي حلب ودرعا وريف إدلب ودمشق وغيرها من المدن والبلدات السورية المنكوبة التي لم تخضع رغم كل هذا الموت؛ ولم يحشد لردّ جحافل التنظيم حلفاءَه من حزب الله ومشتقاته الإيرانية والعراقية، بل آثر أن يغادر دونما ضوضاء فاتحاً الطريق للإرهابيين لغزو المدينة وتطهير ما لم يستطع النظام تطهيره من أثر. هذا الانسحاب المخطّط له في ليل، بهدف تفريغ شرق البلاد وتسليمها للمتطرفين، ليس سوى خطوة أخرى يخطوها النظام في محاولاته الهروب إلى الأمام تراجعاً إلى الغرب السوري حيث يعيش حوالي 60% من سكان سوريا غالبيتهم من الموالين للنظام، وبعضهم من الصامتين من خوف أو يأس، يعيشون في الشريط الطولي الذي يضم دمشق وحمص وحماة وطرطوس واللاذقية، ويطلق عليه النظام اسم: سوريا المفيدة.
ليست «سوريا المفيدة» سوى مشروع كانتون أسدي لاستباق أية محاولة إقليمية تؤدي إلى خلع الأسد بالقوة العسكرية القاهرة على غرار عاصفة الحزم في اليمن، وكذا لضمان مصالح إيران العقائدية والاستراتيجية في دمشق وما حولها، ومصالح روسيا في الساحل السوري. هذا المشروع أُعدّ بعناية بتوجيه من خبراء الدولتين من العسكريين الذين يقودون المعارك بالنيابة عمن تبقى حيّاً وموالياً من ضباط الجيش النظامي؛ فقد تداولت وسائل الإعلام مؤخراً معلومات استخبارية دقيقة تفيد أنه «صدرت أوامر من القيادة العسكرية المشتركة في دمشق (روسية ـ إيرانية ـ سورية) تطلب من القوات المتواجدة في تدمر الاكتفاء بمقاومة محدودة أمام مقاتلي داعش، ومن ثم المبادرة بالانسحاب الكامل من المدينة«.
أراد بشار الأسد أن يحقّق صيداً خبيثاً من هكذا انسحاب يحمل أكثر من منفعة سياسية. فمن ناحية يخاطب الغرب المرتعد أمام سقوط 3000 سنة من الأثر الحجري للحضارة الإنسانية بيد قوى ظلامية تقوم بتحطيم كل تحفة تاريخية تقع في طريقها وفي أحسن الأحوال تقوم ببيعها للمهرّبين وتشتري بثمنها سلاحاً لتعزيز نفوذها وتأكيد تمدّدها، يخاطبه في رسالة مفادها أن نظامه، ولا أحد غير نظامه، يمكنه أن يشكّل جداراً منيعاً في وجه توسّع التنظيم على الأرض السورية، وبذهابه سيسقط هذا الجدار، وستكون سوريا وجوارها أرضاً مشاعاً للمتطرفين. ومن جهة ثانية ـ وهي الاستراتيجية غير المعلنة بعد لبشار الأسد ـ أراد أن يدّخر ما بقي من جنود وسلاح من أجل الدفاع عن «محمّيته» التي تضم قرابة ثلثي سكان سوريا فقط ممن يرغب أن يسمّيهم شعباً بعد أن قام بتهجير ثلث الشعب الثائر!
وليست عمليات التطهير العرقي الممنهج من التهجير القسري إلى المذابح الطائفية المروّعة التي اقترفها النظام في حمص ـ التي يفترضها قلباً لسورياه المفيدة ـ إلا استباقاً لتأسيس دويلته التي سيلجأ إليها بعد إخفاقه في الانتصار على الثورة وقمعها، وكذا تفريطه بسوريا الدولة الوطنية مقابل جغرافيا محدّدة يديرها بالنيابة عن حليفَيه، إيران وروسيا، صاحبتي المصلحة العليا باستمراره في الحكم.
وبينما يتابع الأسد رسم خطوط سوريا المفيدة وتسليم ما تبقّى تحت سلطته من الأرض ـ التي لا يَعتقدُ أنها «مفيدة« ـ لجحافل داعش، وكذا إفراغ ما في مستودعات ذخيرته من البراميل المتفجرة فوق حلب والحسكة وريف إدلب لتسهيل دخول المتطرفين إليها، يدفع بيده الأخرى باتجاه إنجاز اتفاق سياسي مع معارضة أفلح في شقّ صفها بمن دسّ بين صفوفها من مرتزقة، اتفاق له صيغة أممية برؤية قاسم السليماني الذي يدير القتال والقتل من قصر الشعب الآن، والذي وحده سيعلن سوريا المفيدة إثر نضوج «الطبخة» بإنجاز الاتفاق الإيراني مع الدول الكبرى فور تعافي وزير الخارجية الأميركي من كسوره.