«حزب الشعوب الديموقراطي» خسر في الانتخابات التركية التي أُجريت في الأول من الشهر الجاري 21 مقعداً من المقاعد الـ 80 التي كان فاز بها قبل خمسة أشهر في انتخابات حزيران (يونيو)، والتي لم تسفر عن حصول حزب «العدالة والتنمية» الحاكم على غالبية تمكّنه من تشكيل حكومة من دون شركاء. هكذا قامر بانتخابات جديدة بدلاً من تشكيل حكومة ائتلافية، ونجح بحصوله على 316 من مجموع 550 مقعداً.
ماذا حدث كي يفقد «الشعوب الديموقراطي» نحو 30 في المئة من الأصوات في خمسة أشهر فقط، أي من نسبة 13.1 في المئة الى نسبة 10.7؟
منذ ظهور النتائج الأحد الماضي والمحللون وكتاب الأعمدة الصحافية والخبراء يواصلون البحث في الأسباب والعوامل التي أدت الى هذا التغيير الدراماتيكي في مزاج الناخبين الأتراك خلال فترة قصيرة. كتاب أتراك أفاضوا في البحث عن العوامل التي أدت الى الفوز الساحق الذي حققه «العدالة والتنمية» بزعامة رئيسه داود أوغلو (رجب طيب أردوغان تخلى بموجب القانون عن رئاسة الحزب إثر انتخابه رئيساً للجمهورية لكنه يبقى عملياً الزعيم الفعلي غير الرسمي له). كاتب تركي قدم عشرة عوامل لهذه النتيجة، هنا عناوينها: مرشحون أقوياء، وعود اقتصادية، تحقيق الاستقرار، المناورات السياسية لأردوغان، تجميد عملية السلام مع الكرد، تصعيد الهجمات من حزب «العمال الكردستاني» و «داعش»، تعليق النقاش في شأن النظام الرئاسي، تنطيم حملة انتخابية ناجحة، دور المجالس البلدية والإعلام، إقناع مؤيدين سابقين منزعجين بالتصويت له مجدداً.
ما سلف من عوامل تستحق الخوض فيها، لكن هذا المقال معني بالتركيز على عامل واحد يتعلق بعملية السلام الكردي التي كان قد أعلن أردوغان قبل الانتخابات انها «وضعت في الثلاجة» في محاولة لفهم تراجع «الشعوب الديموقراطي»، وفي السياق تسليط ضوء على الدور الذي لعبه «العمال الكردستاني» واستخدمه «العدالة والتنمية» لإضعاف مواقف «الشعوب الديموقراطي» والاستحواذ على أصوات ناخبين أتراك وكرد كانوا صوتوا في الانتخابات السابقة للحزب الكردي. لهذه الأصوات تضاف أصوات كثيرة من حزب «الحركة القومية» اليميني الذي كان الخاسر الأكبر، إذ خسر نصف مقاعده، من 81 الى 42 فقط. وهذه الخسارة ترتبط كثيراً بالمسألة الكردية، وتفسير ذلك باختصار ان هذا الحزب القومي التركي ركز في الانتخابات السابقة على ورقة «العمال الكردستاني» باعتباره التنظيم الارهابي الذي دخل أردوغان في مفاوضات مع زعيمه المسجون عبدالله أوجلان معرضاً بذلك الأمن القومي التركي للخطر، فكسب بذلك أصوات ناخبين قوميين عادوا فصوتوا لـ «العدالة والتنمية» الذي شدد مجدداً في حملته الانتخابية على تجميد عملية السلام ومواجهة «العمال الكردستاني».
لكن ما هي هوية «الشعوب الديموقراطي» ولماذا تخلى عنه أنصاره تحديداً بسبب هذه الهوية التي نجح «العدالة والتنمية» في تخويفهم بها؟
هو حزب يساري تأسس في 2012. وكان الكرد قبل تأسيسه ينجحون في انتخاب أكثر من 20 نائباً يترشحون كمستقلين ثم يقدمون على تشكيل كتلة نيابية داخل البرلمان. ووفقاً لتقليد وضعه «العمال الكردستاني» لهيئاته القيادية تأكيداً منه لمبدأ المساواة بين الجنسين، اعتمد «الشعوب الديموقراطي» ايضاً نظام الرئيسين الشريكين: رجل وامرأة. ومنذ حزيران (يونيو) 2014 أصبح للحزب رئيسان هما صلاح الدين دميرطاش وفيغين يوكسيغداغ. وكما في الهيئات القيادية لـ «العمال الكردستاني» فان الرجل هو الرئيس الفعلي. وهكذا فديمرطاش هو الزعيم الفعلي للحزب.
الى ذلك يدخل الحزب في تحالف مع «حزب المناطق الكردية الديموقراطي» الذي يوصف عادة بأنه الشقيق لحزب ديمرطاش. وفي الانتخابات الرئاسية التي أجريت عام 2014 ورشح دميرطاش نفسه فيها استطاع الحصول على أكثر من 9 في المئة، الأمر الذي حفز حزبه على خوض الانتخابات البرلمانية.
خلال الحملة الانتخابية الأخيرة شن «العدالة والتنمية» هجوماً كلامياً عنيفاً على «الشعوب الديموقراطي»، خصوصاً على زعيمه دميرطاش واصفاً كليهما بأنهما تابعان لـ «العمال الكردستاني»، كما حال فرعه السوري «حزب الاتحاد الديموقراطي». وكان دميرطاش نجح خلال الحملة الانتخابية الأولى في حشد تأييد واسع لحزبه ليس من الكرد فحسب بل من شرائح اجتماعية من الأتراك تراوحت بين جماعات يسارية وماركسية ونسوية وشبابية وغيرها على أساس برنامج انتخابي تجاوز الوضع الكردي الذي أدرج في إطار تحقيق السلام الأهلي. وهذا فيما كان رفض النظام الرئاسي شعاراً مرغوباً من الناخبين لكنه لم يكن مهماً في الحملة الانتخابية الثانية.
فالأرجح أن الأوضاع الأمنية والاقتصادية المتفاقمة خلال الأشهر الخمسة الفاصلة بين الحملتين أدت الى تغليب هذه الهواجس على ما عداها، بما في ذلك مسألة النظام الرئاسي الذي رفعه «العدالة والتنمية» من قائمة شعاراته الانتخابية بينما تمسك به حزب دميرطاش مشدداً على انهاء حكم «السلطان» أردوغان.
فوق ذلك لم يستطع «الشعوب الديموقراطي» تقديم خطاب مقنع لإبعاد تهمة ارتباطه بـ «العمال الكردستاني». والمفارقة هنا أن الأخير عمل من جهته على إضعاف دميرطاش الذي أقلق صعود نجمه صقور «العمال الكردستاني» في جبال قنديل في كردستان العراق وهم عملياً غير معنيين بالسلام. وكان أحد أبرز الصقور، دوران كلكان (عباس) المسؤول عن اللجنة العسكرية في قيادة قنديل، قد هاجم دميرطاش بعد دعوة الأخير الى القاء السلاح ووقف المواجهة العسكرية. كلكان تساءل في تصريح له: «من هو وماذا حقق؟»، كأنما كان يوجه رسالة الى الكرد مفادها ان على دميرتاش ان يعرف حجمه وعليهم أن يعرفوا من هم قادتهم الحقيقيون.
لعل ما سلف، اضافة الى المخاوف من تفاقم الاوضاع الامنية والاقتصادية والرغبة في استقرار نجح أردوغان وحزبه في اقناع الناخبين بأنه لم يتحقق الا في ظل حكومة قوية، أشاع الارتباك في صفوف أنصار «الشعوب الديموقراطي» فسجل تراجعاً بدل تحقيق فوز أكبر مما في الانتخابات الاولى، وفقاً لما وعد.
عن الحياة