قطيعُ المدرّسين ـ قصة قصيرة لـ إدريس علي

Share Button

حينَ دخلَ متعرّقاً مبنى المَجمَعِ التّربويّ كانتْ صالتُها مكتظّةً كعادتها كلّما تأخّرَت رواتبُ قطاعِ التّربيّة . أسرعَ نحو 13522007_1066675646745485_8368315124873236223_nغرفةِ مُعتمَد الرّواتبِ دونَ أن يلتفتَ للوجوهِ التائهةِ ، كما أنّه لم يُلاحظ أكثرَ من يدٍ رُفِعَت لتحيّتهِ لانشغالهِ التام بكيفية توزيع راتبه.
كانوا ثلاثةَ عشرَمُدرِّساً قبلَهُ يقفونَ في طابور ، سبعةٌ داخلَ غرفةِ المعتَمَد و ستةٌ خارجها بالممرّ ، بالإضافةِ إلى العشراتِ من الزميلات المُدرّسات اللواتي تجمّعنَ بعشوائيّةٍ هنا و هناك .
وقفَ خلفَ مدرّسٍ للموسيقى ، صديقٌ قديم ، بادرهُ التّحيّةَ و السؤالَ عن الصّحةِ و الأحوال .
رأى وقوفَهُ هناكَ فرصةً لتفقّدِ لائحة مستلزماتِ بيتِهِ ، كانَ باذنجانِ المكدوسِ يتصدّرُ القائمةَ التي تنتهي بالرقم (14) حذاءٌ رياضي لابنِه المُقبِلِ على دخولِ الرّوضةِ . ابتسمَ للمصادفةِ الغريبةِ بينَ ترتيبه في طابور الرّاتبِ و الرقم الأخير في اللائحة الطلبات في يدِه .
كانَ الطابورُ يتطاولُ بسرعةٍ من خلفِه ، و يتناقصُ ببطئٍ أمامَه . عشرونَ دقيقةً مرّت و صارَ داخلَ الغرفةِ ، حيثُ فاحَ خليطٌ عجيبٌ من روائحِ العطورِ ، كانتِ العطورُ النّسائيّةِ هي الطاغية .
ـ لا بأسَ أن يتأخرَ عدةَ دقائقَ إضافيّة هنا ، في الغرفةِ المُكيّفةِ بالهواء الباردِ و الوجهِ الحسّن (أسرَّ لنفسه) .
بقيَ أمامَه مدرّسان يقابلهما أربعُ مدرّسات حينَ اقتحمَ الغرفةَ رجلانِ مسلحان الغرفةَ بكلّ فظاظة ، أحدهما راحَ يصيحُ بالجميعِ : أوقفوا توزيعَ الرّواتب … حالاً ، أوقفوا التّوزيع .
حالةٌ من الاستنكارِ و الدهشة الممزوجة بالهلّع سيطرت على الوجوه ، و أحسّ هو بجفافٍ في حلقه و راحَ و كأنّ قلبَه هبط بين قدمَيه و أخذَ يتدحرجُ على الأرضِ و يُداسُ بالأقدامِ المُتكدّسة .
أعاد الرجلُ المسلحُ ذو اللحية غير المشذبةِ صياحَهُ : أوقفوا توزيعَ الرواتب و ليخرجِ الجميع لينضموا إلى الوقفة التضامنيّة في الخارج . همهمات و همساتٌ كثيرةٌ تدحرجت من الأفواه . سُمِعَ صوتٌ نسائي : تضامن؟! مع مين .. و ليش هلئ، و الرّاتب؟!
هنا هدرّ الرجلُ المُسلَّحُ : يا محترمة .. يلي ياخد راتب من الدّولة بدو يتضامن مع الدولة بكيفو أو غصب عنو . يلا الكل برا لشوف .
و سِيقَ قطيعُ المدرّسين و المدرسات خارجاً حيثُ تجمّعَ العشراتُ من المدنيين و بعضُ العسكريين برتبٍ مختلفة أمامَ رابطةِ الشبيبة ، صورتان كبيرتان جداً لرأسِ الدّولة تجوبانِ السّاحة ، و طبلٌ ، و رجلٌ قزمٌ يردّدُ أشعاراً تمجّدُ القائدَ و البعث يقابلهُ تصفيقٌ ضعيف من الحضورِ المتواضِع ، و بعضُ كرتوناتٍ صغيرة كُتِبَ عليها عبارات خجولةٌ تعبّرُ عن التضامن مع أهلِ السويداء ضدَّ “الإرهاب”.
خرجَ مسرعاً ، و ارتطمَ بأجسادٍ مختلفةِ الأحجامِ و من الجنسَين، أرادَ أن يكونَ أولَ المبتعدينَ عن السّاحة ، و ليؤجّل الرّاتبَ ليومِ الغد .
و لكن .. و حينَ اصطدمَ بالرفيقةِ البعثيّةِ الشّقراء اللامعة تغيّرَتْ كل خططهِ في المغادرة .
بادرتْهُ بالاعتذار فتلعثمَ و تأتأَ بجملةٍ متقطعة جعلتها تضحكُ بصوتٍ إرجوانيّ متلألئ ، ثمّ استدارَتْ نحو السّاحةِ ، رافعةً يدها اليسرى ملوّحةً بإشارةِ النّصرِ ، تاركةً لهُ كتفها الأيمنِ العاري .
وقفَ جامداً كلوحةِ إعلانٍ بلهاء ، يبحلقُُ في الكتفِ البيضاءَ العاجيّة ، غائباً عن كلّ ما يحدثُ حولَه ، و قرّرَ أنّهُ من الواجبِ أن يتضامَن على الأقلّ مع كتفِ هذه الرفيقةِ البعثيّة ، نعم .. هذه الكتفُ وحدها يستحقُّ كلَّ أشكالِ التّضامن و لا شيءَ آخر .
و كشاشةٍ مسطّحةٍ راحَتْ كتفُها تنقلُ لشبكيةِ عينَيه الأحداثَ و الشّعارات. صورُ القائد و اللافتات و الضباط و المسلّحين و الزملاءُ المُدرّسين و الزميلات المُدرّسات ، و موجهو الاختصاصات ، و مُعتَمَدو الرواتبِ و المستخدمون و الوكيلات و الوكلاء .. كلُّ ذلك بدا لهُ تافهاً لا قيمةَ له أمامَ رصانة الكتفِ و لمعانه .
شعرَ بنسماتٍ لطيفةٍ تنبعثُ من كتفها فارتجف من برودةٍ خفيفة في حين كانَ العَرقُ يتصبّبُ من الوجوهِ حوله، تخيّلَ نفسهُ صغيراً يتزحلقُ بطراوةٍ فوقَ الكتفِ الملساء و يضجّ بالضحكات.
اقتربَ دونَ وعيهِ خطوةً إلى الأمام فشعرتِ الرفيقةُ البعثيةُ بأنفاسهِ اللاهثةِ على كتفها العارية ، فالتفتَتْ نحوهُ بسرعة ، ارتبكَ ، و من جديد تلعثمَ و تأتأ و بحماس راح يرفعُ يدَهُ ملوحاً بإصبعي النّصرِ و أخذَ يردّدُ شعاراً حفظَه في التظاهرات و التضامنات التي كانَ يتفرّجُ عليها في شوارعِ مدينتهِ قبل سنوات : حرّيّة .. حرّيّة .. حرّيّة .
أنقذتْهُ ضحكتها المجلجلة من الموقفِ المأساوي الذي أوقعتْهُ فيهِ كتفُها العاريةُ ، استدرك خطورةَ الأمر ،و بلمحِ البصر انحنى بين الجموعِ و تملّصَ من العيونِ الموجّهة إليهِ و استطاعَ أن يبتعدَ عن السّاحةِ المشؤومة ، اجتازَ راكضاً عدةَ شوارعَ في دقيقةٍ واحدة ، و حينَ صارَ خلفَ الفرن الآلي تنفّسَ الصّعداء و راح يسيرُ بهدوء ، و بقيَتِ الكتفُ تتأرجحُ في مخيّلته.

نقلا عن موقع الانتماء : talintemaa.net

Share Button

عن PDPKS

x

‎قد يُعجبك أيضاً

صدور العدد الجديد 648 من الديمقراطي

صدر العدد الجديد 648 من جريدة الديمقراطي التي يصدرها الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، ...