لعبت جغرافية الشرق الأدنى « ميزوبوتاميا » بموقعها الاستراتيجي وثرواتها دورا في « مصير » شعوب هذه المنطقة. ونتيجة هذا الموقع الاستراتيجي تحولت إلى ساحة صراع بين القوى الدولية والإقليمية.
وقد حكم العثمانيون هذه المنطقة زهاء أربعة قرون، من عام 1516 وحتى 1918، وأهملوا كل مناحي الحياة فيها، فتراجعت في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ونظرا لموقعها وغناها طمعت بها الدول الاستعمارية.
استغلت الدول الأوروبية ضعف الدولة العثمانية منذ بداية القرن الثامن عشر وتدخلت في شؤونها الداخلية تحت اسم الامتيازات الاجنبية :
“وهي التسهيلات التي منحتها الدولة العثمانية للدول الأوروبية بهدف تشجيعهم على الاقامة فيها واستثمار اموالها وخبراتها من خلال معاهدات واتفاقيات تشملت بالإضافة إلى الاقتصاد جوانب دينية وقضائية ومواصلات” مما أعطى هذه الدول حق التدخل في شؤونها الداخلية. فحصلت فرنسا على حق حماية الكاثوليك. وحصلت روسيا على حق حماية الارثوذكس. أما ألمانيا فقد حصلت على امتيازات مختلفة أهمها سكة حديد بغداد.
واختلفت الدول الأوروبية فيما بينها حول الإبقاء على الدولة العثمانية « كما هي – أي الضعيفة » والتدخل في شؤونها لتحقيق أطماعها، أو تقسيمها. لذلك نظرت كل دولة من الدول الأوروبية إلى الدولة العثمانية من زاوية مصالحها واستخدمت الشعوب التي كانت تعاني من ظلم الدولة العثمانية كوقود لمصالحها.
بريطانيا: كانت في البداية من أنصار الحفاظ على الدولة العثمانية الضعيفة « والتدخل في شؤونها بحجة حمايتها والحفاظ على ممتلكاتها » من الأطماع الروسية . وبعد ذلك وافقت على تقسيمها وتجزئة ممتلكاتها خاصة بعد مؤتمر برلين 1878م.
فرنسا: أول دولة حصلت على الامتيازات في الدولة العثمانية، وحق حماية الكاثوليك، إلا انها وبعد التقارب البريطاني العثماني رغبت في القضاء على الدولة العثمانية والسيطرة على ممتلكاتها « فأرسلت حملة نابليون على مصر وسوريا، وأيدت محمد علي باشا في حربه ضد الدولة العثمانية»
روسيا القيصرية: من أشد أنصار القضاء على الدولة العثمانية، وإعادة تقسيم ممتلكاتها، أدعت أنها وريثة الإمبراطورية البيزنطية، وسعت للوصول إلى المياه الدافئة والسيطرة على المضائق ، وخاضت أكثر من حرب مع الدولة العثمانية «حرب القرم 1853- 1856 »
ألمانيا: بعد أن استكملت وحدتها القومية 1870 وأصبحت دولة أوروبية قوية، بحثت عن مستعمرات لها لتأمين المواد الأولية ، والترويج لصناعتها « فحسنت علاقاتها مع السلطان العثماني » للتوسع سلميا في الأناضول والعراق. لذلك كانت من اشد المدافعين عن بقاء الدولة العثمانية. واراد السلطان الاستفادة منها لمواجهة أطماع بقية الدول الأوروبية، خاصة الفرنسية والروسية.
وقد استغلت الدول الأوروبية ولاسيما إنكلترا وفرنسا وروسيا دخول الإمبراطورية العثمانية الحرب العالمية الأولى في 2 تشرين الثاني 1914، للإجهاز عليها واقتسام ممتلكاتها . وبدأت هذه الدول تخطط لكيفية تقسيم هذه الدولة المتفسخة والمترامية الأطراف . التي عجزت لأكثر من قرن من القيام بإصلاحات حقيقية تساعدها على بناء مؤسسات عصرية ، وتحول دون انهيارها ، وبعد أقل من عام على بدء الحرب توصلت إنكلترا وفرنسا وروسيا القيصرية ومن ثم إيطاليا إلى تفاهمات واتفاقيات مهدت لاتفاقية سايكس – بيكو .
وذلك بتقسيم تركيا الآسيوية بين ، بريطانيا وفرنسا وروسيا، وقد وقفت روسيا القيصرية في البداية بقوة ضد التفاهم البريطاني – الفرنسي وإعطاء أي جزء من المناطق الكردية لفرنسا، فهي كانت ترغب بالسيطرة على أرمينيا وكردستان العثمانيتين لنفسها دون منازع . إلا أنها وبعد مساومات وافقت على صيغة الاتفاق الذي توصل إليه مندوبي الدول الثلاث في القاهرة، وسمي الاتفاق بـ « اتفاق القاهرة ».
وفي 8 آذار 1915 توصلت الدول الثلاث إلى اتفاقية سرية حول الخطوط العريضة لتقسيم الدولة العثمانية سميت باتفاقية القسطنطينية* « سميت بذلك لأنه تم الاتفاق على ضم “القسطنطينية” ومضيقي “البوسفور” و “الدردنيل”، حتى خليج “أزمير” لروسيا، مقابل اعتراف روسيا القيصرية بالمطالب التي تقدمت بها بريطانيا وفرنسا. ومن ثم أبرمت الدول الثلاث في 26 نيسان 1916 مع إيطاليا اتفاقية جديدة عرفت بمعاهدة لندن، اعترفوا فيها بمصالح ايطاليا في أجزاء من ممتلكات الدولة العثمانية وفي البحر المتوسط.
أما أخطر الاتفاقيات تأثيراً على كردستان ومنطقة الشرق الأوسط فكانت اتفاقية سازونوف – باليوج* في 4 آذار 1916 والتي عرف القسم الخاص باقتسام الدول العربية فيها باتفاقية سايكس – بيكو، نسبةٍ إلى المندوب البريطاني مارك سايكس، والفرنسي جورج بيكو. التي تم التوقيع عليها بشكل رسمي في 16 ايار 1916.
واحتلت روسيا القيصرية بعد الحرب مباشرة ” القسم الأعظم من كردستان الشرقية – الفارسية “، وبموجب اتفاقية سازانوف – باليوغ طالبت بـ : ((مناطق ارزروم وطرابزون ووان وبدليس، حتى غرب خط غربي طربزون على البحر الأسود. ومنطقة كردستان إلى الغرب من وان وبدليس حتى موش وجزيرة بوطان ومناطق آميدية ماركاوار، على حدود كردستان إيران، مقابل ضم مناطق الاداغ وقيصرية وخربوط إلى فرنسا. )) .
ولكن بعد انسحاب روسيا القيصرية من الحرب العالمية الأولى إثر قيام الثورة الاشتراكية فيها عام 1917، وصلح بريست 15 كانون 1 1917م، والتخلي عن الالتزام بكل الاتفاقيات السابقة .أعادت بريطانيا (( التي كانت عمليا تقرر كل شيء على ارض الواقع )) توزيع حصة روسيا بضم جنوب وجنوب غربي كردستان إلى العراق وسوريا. ومنح المضائق لليونان.
تعتبر اتفاقية سايكس بيكو من أخطر الاتفاقيات السرية في العصر الحديث ، تم من خلالها إنشاء دول جديدة ووضع حدود جديدة لمنطقة الشرق الأوسط. هذه الحدود التي رسمت بشكل نهائي في مؤتمر سان ريمو 1920.
تتألف الاتفاقية من 12 فقرة أو مادة، عرفت باسم شخصين محددين هما مارك سايكس وجورج بيكو، ولكنهما لم يقوما إلا بوضعها نيابة عن الحكومتين البريطانية والفرنسية. إذ يقول ارنولد توينبي عام 1922: (( الحقيقة أن ما قام به الرجلان هو أنهما اتفقا على اللغة التي صيغت بها عبارات الاتفاقية، فقد تم الاتفاق عليها أثناء سلسلة من الاجتماعات التي عقدها الزعماء السياسيون من الجانبين، قبل أن يدفعا بها إلى هذين الرجلين لوضع الصيغة النهائية لها )) .
نص اتفاقية سايكس بيكو:
بموجب الاتفاقية تم تقسيم الشرق الأدنى إلى 5 مناطق ملونة، مع تداخل وتبادل بعض المناطق. وأرفق مع نص الاتفاقية مصور ملون حسب مناطق نفوذ كل دولة من الدول الاستعمارية.
المادة الأولى: ان فرنسا وبريطانيا مستعدتان أن تعترفا وتحميا أي دولة عربية مستقلة أو اتحاد دول عربية ، تحت رئاسة رئيس عربي في في المنطقتين « A »، سورية الداخلية، ( B ) ( شرقي نهر الاردن وقسم من العراق ) المبينتين بالخريطة الملحقة.
ويكون لفرنسا في المنطقة ( A ) ولإنجلترا في المنطقة ( B ) حق الأولوية في المشروعات والقروض المحلية.
وتنفرد فرنسا في المنطقة ( A ) وانجلترا في المنطقة ( B ) بتقديم المستشارين والموظفين الأجانب بناء على طلب الحكومة العربية أو حلف الحكومات العربية.
المادة الثانية: يسمح لفرنسا في المنطقة الزرقاء:الساحل الشمالي لسورية، وكيليكيا، وجنوب غرب كردستان ” عنتاب، اورفا، ماردين، هكاري. ” ولإنجلترا في المنطقة الحمراء: (من بغداد حتى خليج فارس ). وانشاء ما ترغبان فيه من شكل الحكم مباشرة أو بالواسطة أو من المراقبة بعد الاتفاق مع الحكومة أو حلف الحكومات العربية.
المادة الثالثة: المنطقة السمراء وتشمل ( فلسطين) تقام فيها إدارة دولية، يتفق على شكلها مع الحلفاء ومن بينهم روسيا وشريف مكة. على أن تحتفظ إنكلترا بميناءي حيفا وبغداد.
المادة الثانية عشرة: من المتفق عليه أن اتفاقية سايكس – بيكو هي الجزء الخاص التنفيذي لإتفاقية سازانوف – باليوغ « بطرسبرغ » 1916 .
16 أيار 1616 التوقيع مارك سايكس وجورج بيكو
وبعد تسريب نص الاتفاقية ونشرها في الصحف الروسية الألمانية، إلا أنها لم تجد معارضة شديدة أو ملفتة من الدولة التركية التي احتلت المناطق التي انسحبت منها روسيا القيصرية.ولا من إيران التي أحكمت قبضتها على كل أراضيها. ولا من العرب « الشريف حسين » الذي ضمن تشكيل أكثر من دولة أو إمارة عربية.
وقبيل انتهاء الحرب العالمية الأولى، باشرت كل من فرنسا وبريطانيا بتنفيذ بنود الاتفاقية، فاحتلت بريطانيا العراق بما فيها مدينة الموصل عام 1918، الواقعة ضمن النفوذ الفرنسي، وأنزلت فرنسا في نفس العام قواتها على ساحل سورية الشمالية .
خضعت الدول الجديد للانتداب : ( الفرنسي على سورية ولبنان حتى عام 1946 )، والبريطاني على العراق حتى عام 1932، وعلى الأردن حتى عام 1946 ، وعلى فلسطين حتى عام 1948 حيث تم تقسيمها بين العرب واليهود.
هكذا قامت مجموعة من الدول الجديدة في المنطقة هي تركيا « التي ورثت الامبراطورية » والعراق وسورية ولبنان وشرقي الأردن وفلسطين. وتم حرمان الكرد من حقهم في تأسيس دولة خاصة بهم، وتحولوا إلى أقليات في أربع دول، وسعت الحكومات الأربعة التي تم تقسيم وطنهم بينها إلى طمس هويتهم ومصادرة حقوقهم وصهرهم بالقوة في مجتمعاتهم .
وإثر انتهاء الحرب العالمية الأولى ظهرت النوايا الحقيقة للدول الاستعمارية (( واشتد الصراع مجددا بين الدول المنتصرة نتيجة التوازنات الجديدة، لذلك اعتبر رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج أن اتفاقية سايكس بيكو مجرد وثيقة سخيفة )) . وبعد سلسلة من المساومات توصلت بريطانيا مع فرنسا إلى صيغة تفاهم جديدة 1919 لتعديل اتفاقية سايكس – بيكو بتنازل فرنسا عن ولاية الموصل « كردستان العراق » لبريطانيا، مقابل انسحاب القوات البريطانية من سوريا لتحل مكانها جيوش فرنسية.
ونتيجة رفض مختلف شعوب المنطقة للاحتلال بكل أشكاله ومسمياته، وانسحاب الدول الاستعمارية من المنطقة بطرق مختلفة. وعدم تمكن الحكومات التي تسنمت الحكم في الدول التي ولدت من رحم اتفاقية سايكس – بيكو من بناء دول وطنية، وتأمين الاستقرار لمواطنيها، ولجوء الجيوش التي تشكلت في ظل الاحتلال إلى الانقلابات العسكرية التي حكمت البلاد بالحديد والنار باسم الثورات أحيانا . تشكلت أنظمة استبدادية لا مثيل لها في العالم .
لذلك ازدادت النقمة على هذه الأنظمة، وعندما وجدت الشعوب الفرصة المناسبة ثارت على هذه الأنظمة، التي انهارت الواحدة تلو الأخرى عسكريا وأخلاقيا حيث ظهر وجهها الحقيقي لشعوبها وللعالم. وارتفعت الأصوات التي تطالب بوضع حد للحدود التي رسمت بالمسطرة والقلم في اتفاقية سايكس بيكو والتفاهمات التي استندت عليها فيما بعد .
نهاية حدود اتفاقية سايكس – بيكو:
إن حدود اتفاقية سايكس – بيكو أصبحت هشة ، وعُرضة للانهيار بأية لحظة. فاليوم هناك شرق أوسط جديد بصدد التشكل بناءً على معطيات جديدة بين عواصم القرار العالمي ، تضمن إلى حد ما حقوق الشعوب والأقليات والمذاهب. كما تحمي آبار النفط في الجغرافيا الجديدة، أي طبقًا للحدود الديمغرافية للشعوب المتجانسة والخرائط النفطية .
أهم عوامل نهاية حدود سايكس – بيكو:
1 – أن هذه الاتفاقية لم تستفتي شعوب المنطقة، ولم تأخذ رأيهم في رسم هذه الحدود. وكان هدفها خلق أرضية « بذرة » لاستمرار التوتر والنزاعات في كل دولة.
العراق: النزاع بين الكرد والعرب والتركمان، والسنة والشيعة
سورية: النزاع بين الأثنيات، والطوائف والمذاهب. والكرد والعرب.
لبنان: النزاع بين المسلمين والمسيحيين، والطوائف والمذاهب.
الأردن: النزاع بين البدو والحضر، وبين الأردنيين والفلسطينيين.
فلسطين: النزاع بين العرب واليهود.
2- أن الدول التي وقعت على هذه الاتفاقية وهي بريطانيا وفرنسا « لنهب ثروات المنطقة، وتحويلها إلى سوق لمنتجاتها »، كانت من أقوى دول العالم قبل قرن.وقد تراجع دورها وحلت محلها دول أكثر قوة عسكرية واقتصادية « أمريكا – روسيا – الصين…» ولها مصالح في المنطقة . لذلك من مصلحتها تغيير حدود سايكس – بيكو وفق مصالحها..
3- هذه الاتفاقية وضعت من أجل استمرار الصراعات والنزاعات في المنطقة. لذلك التخلص منها ومن نتائجها على الأرض هي في مصلحة هذه الشعوب التي عانت الحرمان من أبسط حقوقها الإنسانية والسياسية تحت شعارات ايديولوجية مقيتة كشعارات « القومين الاتراك » و « القوميين العرب – حزب البعث » .
4- حرمت هذه الاتفاقية الشعب الكردي من تأسيس دولة كردية، وقسمت كردستان بين تركيا وسوريا والعراق . حيث تم تطبيق هذه الاتفاقية في مرحلة لم يكن للكرد كيان أو دولة قومية تدافع عن الكرد. بعكس هذه الفترة، فرغم عدم وجود دولة كردية، إلا أن الكرد الآن يمتلكون قوة عسكرية ويحاربون على اكثر من جبهة مع القوى العظمى .لذلك من مصلحتهم تلاشي وزوال هذه الحدود.
5- لم تتمكن الدول التي تأسست بموجب اتفاقية سايكس بيكو من بناء الدول الوطنية وتأمين العيش المشترك والاندماج بين مجتمعاتها. لذلك من الطبيعي أن تبحث شعوب هذه الدول التي تتكون من أثنيات ومذاهب وطوائف مختلفة عن الأمن والاستقرار في كيانات خاصة بها ، بعد أن فشلت الدول القومية في تأمين ذلك لمدة قرن من الزمن.
هكذا باتت هذه الاتفاقية منتهية الصلاحية. لا بد من التخلص منها ومن نتائجها الكارثية.
قامشلو 15 – 5 – 2016