غسان شربل: لا صديق للكورد إلا الجبال.

Share Button

كان ظهور «داعش» مصيبة كبرى ابتليت بها المنطقة. لكن انحسار هذا التنظيم الرهيب أعاد التذكير بحقيقة مرة، وهي أن مصائب المنطقة لم تبدأ مع «داعش» لتنحسر بانحساره. ولا مبالغة في القول إن «داعش» شكل بممارساته الدموية الهمجية ستاراً من الدخان أتاح لقوى كثيرة إخفاء الأسباب الحقيقية لحرصها على التسلل إلى الملعب السوري أو التدخل فيه علانية.
غياب «داعش» طرح على القوى التي تستبيح الأراضي السورية، بطلب أو من دون طلب، سؤالاً واضحاً: ماذا تفعل في سوريا؟ وإلى متى سترابط هناك؟ وما برنامجك الحقيقي ومطالبك العميقة؟ وليس سراً أن إيران لم تتدخل في سوريا لمحاربة «داعش». وأن روسيا لم تتدخل هناك فقط لإبعاد خطر «داعش». ويمكن أن يقال الأمر نفسه عن الأميركيين وعن كل هذه القافلة من الأعلام الغريبة التي ترابط على الأرض السورية.
مؤلم للسوري والعربي معاً أن تتحول سوريا ساحة لتصفية الحسابات في كل أنواع الحروب المعلنة أو المستترة. وأن تتحول أجزاء من الأرض السورية والشعب السوري إلى مجرد أوراق يتم تحريكها من قبل قوى إقليمية أو دولية. كشفت المأساة السورية هشاشة هذا البلد الذي كانت له قبل اندلاع الأحداث فيه صورة القلعة محكمة الإقفال في وجه لاعبي الخارج. كشفت أيضاً هشاشة الدول المحيطة بسوريا وسعيها إلى تبديد مخاوفها عبر حجز مواقع لها على أرض سوريا وإطلاق حروب بديلة هناك.
كان واضحاً في الشهور الماضية أن التطورات السورية بددت الأحلام السابقة للرئيس رجب طيب إردوغان وبينها حلم رؤية سوريا بلا الرئيس بشار الأسد. نجح فلاديمير بوتين في تحويل حادث إسقاط قاذفة روسية بصاروخ تركي إلى فرصة لتطويع سياسات تركيا السورية. وهكذا انتهى الأمر بتركيا شريكة مع روسيا وإيران في رعاية مسار «سوتشي» الذي يهدف أساساً إلى حرف مسار «جنيف» والالتفاف عليه. من حزمة الأحلام السابقة احتفظ إردوغان بحلم وحيد هو نسف المكاسب التي حققها كورد سوريا على حدود بلاده. ولم يتردد دبلوماسيون في القول في الشهور الماضية إن إردوغان يستطيع التعايش مع سوريا إيرانية – روسية يحكمها الأسد، لكنه لا يستطيع التعايش مع إقليم كوردي في الجانب السوري من الحدود مع بلاده.
والحقيقة أن تطورات السنوات الثلاث الأخيرة أوقعت الكورد في مزيج من الأحلام والأوهام. اعتقدوا أن الدور البارز الذي لعبوه في مقاومة «داعش» في العراق وسوريا والذي كلفهم آلاف القتلى والجرحى أعطاهم شرعية لم توفرها لهم معاركهم السابقة سعياً إلى نيل حقوقهم واحترام تطلعاتهم. ولعلهم ذهبوا بعيداً في الاعتقاد أن دورهم في التصدي لـ«داعش» أعطاهم نوعاً من الحصانة ضد حملات التأديب التي كانت جيوش دول المنطقة أدمنت القيام بها ضدهم كلما انتفضوا معترضين على تكريس موقفهم كمواطنين من الدرجة الثانية داخل هذه الدولة أو تلك. وقد يكونون توهموا أن من مدّهم بالسلاح لمقاتلة «داعش» سيكون ملزماً بتوفير مظلة لهم تقيهم غضب الجيوش التي تعتبر خطر «داعش» عابراً وخطر الكورد مقيماً ودائماً.
إطباق الجيش التركي وحلفائه المحليين على منطقة عفرين أمس، ذكرني بقول سمعته مرات في السابق ومن كورد العراق وسوريا معاً، وهو أن «لا صديق للكورد إلا الجبال». وذكرتني خيبة الكورد السوريين أمس من روسيا بخيبة الكورد العراقيين سابقاً من أميركا.
في 19 يونيو (حزيران) الماضي نشرت «الشرق الأوسط» حديثاً مع السفير الأميركي الأخير لدى سوريا روبرت فورد، أجراه زميلنا إبراهيم حميدي، وتكررت بعده إطلالات فورد في صفحات الرأي في صحيفتنا.
قال فورد: «أعتقد أن ما نقوم به مع الكورد ليس فقط غباءً سياسياً بل غير أخلاقي. الأميركيون استخدموا الكورد لسنوات طويلة خلال حكم صدام حسين. هل تعتقد أن الأميركيين سيعاملون (الاتحاد الديمقراطي) و(وحدات حماية الشعب) في شكل مختلف عما عامل به (وزير الخارجية الأسبق) هنري كيسنجر الكورد العراقيين (عندما تخلى عنهم)؟ بصراحة. مسؤولون أميركيون قالوا لي ذلك. الكورد السوريون يقومون بأكبر خطأ لدى ثقتهم بالأميركيين». وأكد أن واشنطن ليست في وارد استخدام الجيش الأميركي للدفاع عن إقليم كوردي في سوريا.
دائما يرجع الكورد بالخيبة من رهاناتهم. تتغير أشياء كثيرة ولا يتغير موقعهم في دائرة الخاسرين. ثمة حقائق جغرافية صارمة لا يخفف من وطأتها سقوط نظام أو ذهاب حاكم ومجيء آخر. بعد انتصار الثورة الإيرانية ابتهج الكورد بغياب الشاه. شجعهم الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات على الاتصال بقيادة الثورة ورتّب لهم موعداً. استقبل الخميني الوفد الكوردي الرفيع الذي جاء للتهنئة. بعد التهنئة والمجاملات أشار الوفد الكوردي إلى الوضع الصعب لكورد إيران. ردّ الخميني أن المشكلة لن تكون مطروحة بعد التغيير الذي حصل، «فالثورة إسلامية وللجميع وليست لأبناء قومية أو عرق». ولا حاجة إلى سوق الأدلة على أن أوضاع الكورد في إيران لم تتغير.
أكثر من ذلك. كانت بعض الأنظمة تلجأ أحياناً إلى دعم الكورد خارج حدودها وتحتفظ بسياسة كتم أنفاس الكورد داخل حدودها. فدعم النظام السوري لعبد الله أوجلان ضد السلطات التركية لم يدفع دمشق إلى تغيير سياستها حيال كوردها. قبل سنوات، أطلق إردوغان من كوردستان العراق تصريحاً استثنائياً قال فيه: «إن زمن تجاهل حقوق الكورد ولى إلى غير رجعة». اليوم تتقدم القوات التركية لإقامة حزام أمني داخل الأراضي السورية لإبعاد الكورد عن حدودها. تتناسى أنقرة أن هذا النوع من الانتصار على الكورد لا يفعل غير التأسيس لصدامات جديدة حين تتغير الظروف.
ذات يوم حاول الرئيس العراقي السابق جلال طالباني إقناع طارق عزيز وزير خارجية صدام أن للكورد حقوقاً قديمة في كركوك تجب مراعاتها، فجاءه الرد صاعقاً: «ليس لكم في كركوك غير حق البكاء عليها كما بكى العرب الأندلس ألف عام”.
عبر عملية عفرين (وهي جزء من منطقة جبل الكورد) تشهد المنطقة فصلاً جديداً من فصول الحرب السورية. لا الحروب تلغي أسباب النزاع ولا تمزيق الخرائط يشكل حلاً. انحسر «داعش» ووجدت المنطقة نفسها أمام نزاعات أخطر وأعمق. بعد شهور من تأديب كورد العراق ها هي تركيا تؤدب كورد سوريا. «لا صديق للكورد إلا الجبال”.

Share Button

عن PDPKS

x

‎قد يُعجبك أيضاً

صدور العدد الجديد 648 من الديمقراطي

صدر العدد الجديد 648 من جريدة الديمقراطي التي يصدرها الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، ...