عد أكثر من عشر سنوات على الاحتلال الأميركي، تحول العراق بسبب سياسة الحكم الإقصـــائية والطائفية بيئةً حاضنة للتطرف الإســـلامي المتمثــــل بالدولة الإسلامية الذي استطاع أن يهــزم جيشاً صرف على تدريبه وتسلحه أكثر من 25 مليار دولار، واحتل أكثر من ربع مساحة العراق باسم الدفاع عن سنّته. وكانت السياسة الأميركية كرست الانقسام الطائفي والإثني، وكان المستفيد الأكبر إيران التي قدمت نفسها حامية وداعمة لشيعته.
ويعيش العراق، منذ الاحتلال، حال صراع الهويات حيث أسقطت الهوية العراقية لمصلحة «مكونات» قسم بموجبها الشعب إلى «شيعي» و «سنّي» وكردي وتركماني وغيرها من أقليات وأسقط عملياً تعبير المكون العربي.
ويشكل عرب العراق أكثر من 75 ف المئة من السكان وهم العمود الفقري للدولة، وما كان له أن يُكسر إلا بتقسيمه إلى مكونات ليصبح التقسيم خياراً مفروضاً. وعراق يتشكل من «مكون عربي» وآخر كردي يوفر صيغة مناسبة لحكم فيديرالي مع ترك الفرصة للأكراد لتقرير مصيرهم بما لا ينهي بقية العراق العربي.
كان لقيام نظام إسلامي في إيران يعتمد تصدير الثورة عبر البوابة الشيعية، أكبر الأثر في تصعيد الشحن الطائفي في العراق ودول عربية أخرى. في المقابل ساهم فشل قيادة البعث التي حكمت العراق في التعامل مع التهديد الإيراني، ولجؤوها إلى الحرب وفي ما بعد احتلالها الكويت، في خلق البيئة المناسبة للانقسام الطائفي وتراجع الانتماء العربي والاعتماد على القوة العسكرية الأميركية التي انتهت بالاحتلال.
والفشل الأميركي في أفغانستان والعراق، والتردي العربي وأفول التيار القومي العربي المتمثل بالبعث وعبدالناصر، واليأس في صفوف الشباب العربي فتحت الباب واسعاً للبديل الإسلامي تحت شعار «الإسلام هو الحل». لكن الإسلام السياسي في بلد منقسم طائفياً تحول أداة حرب طائفية، وهذا ما يحصل في العراق وسورية.
فالحروب الطائفية قادرة على الاستمرار اعتماداً على التعصب والكراهية، وانتهاؤها مرهون باعتماد بدائل سياسية تمد الجسور بين المكونات المتصارعة. من هنا، أهمية «المكون» العربي كرقم قديم/ جديد في المعادلة السياسية.
وكان للرعيل العربي الأول الفضل الكبير في قيام دول المشرق، واستطاع توحيد العراق بدل تقسيمه ثلاث ولايات (البصرة – بغداد – الموصل)، وكذلك توحيد سورية التي أرادتها فرنسا أربعة كيانات.
لكن فشل ذلك الرعيل في حرب فلسطين عام 1948، وقيام إسرائيل (إضافة إلى عوامل أخرى) أسقطت ذلك الرعيل لمصلحة رعيل جديد متمثل بالبعث وعبدالناصر والقوميين العرب، وبدل أن يستفيد من الفكر الإصلاحي الداعي إلى العلم والحداثة والديموقراطية متمثلاً بالمفكر قسطنطين زريق وغيره من الإصلاحيين، انتهى به المطاف بإضاعة ما تبقى من فلسطين في حرب 1967، والفشل في إقامة الدولة القدوة.
وأصبح البديل الإسلامي الذي طرح نفسه موحداً للأمة الاسلامية، أداة تقسيم للمقسم. فعرب العراق باتوا شيعة وسنّة، وعرب سورية أصبحوا علويين وسنّة ودروزاً، وتم تجاوز ذلك بمزيد من الانقسام بين أبناء الطائفة الواحدة وزج بالجميع في حرب طائفية هي الفتنة بعينها.
واضـــح أنه ليس هناك حل سحري أو سريع، كما أن الأطراف الإقليمية والدولية ذات الصلة متعددة وذات تصورات غالباً ما تكون مختلفة أو متناقضة. الجديد راهناً هو ظاهرة «داعش» التي خلقت اصطفافاً إقليمياً ودولياً عبر العداء المشترك لها، لكن نظرية عدو عدوي صديقي قد لا تنطبق على الشرق الأوسط، فإيران ونظام الأسد لهما كل المصلحة بضرب «داعش»، ولكن يهمهما ما سينجم عن دحره: فطهران تخشى عودة أميركية إلى المنطقة بعد خروجها، وتقليص نفوذها (أربع عواصم عربية أصبحت خاضعة للنفوذ الإيراني). ولأميركا وأوروبا حسابات أمنية تنحصر بتحجيم «داعش» عبر دعم عسكري جوي وضخ الأسلحة والتدريب من دون رغبة بوجود عسكري على الأرض، تاركتين الأمر لأبناء العراق وسورية، وربما التعاون مع إيران طلباً للنجاح. وتركيا تحسب الأمور بمعايير أخرى، فهي سعيدة بأن يقوم «داعش» بلجم القوى الكردية، وراغبة بعدم الاصطفاف وبألا تُحسب ضمن تحالف معادٍ لـ «الإسلام».
عربياً، ليس هناك مشروع موحد، بل قدرات مالية واستخبارية وديبلوماسية محصورة بدول الخليج والأردن التي تخشى تمدد «داعش» لكنها تبقى معتمدة على الدعم الأميركي والأوروبي مع الخشية من أن يصب الأمر لمصلحة الانفتاح الغربي على إيران على حساب العرب وبالذات الخليج.
فـ «داعش» يستغل محاربته بالسلاح الجوي الأميركي والغربي في كسب المتعاطفين معه كقوة مسلمة تقف بوجه «الصليبية الجديدة». أما محاربته اعتماداً على العرب السنّة، كما تدعو واشنطن، فإلى جانب تكريسه الانقسام الطائفي محلياً، سيعطي «داعش» زخماً إعلامياً كممثل حقيقي للسنّة وليس «سنّة أميركا».
كما أن تعاون واشنطن مع إيران أو مع الأسد يفقد التحالف الدولي صدقيته بادعاء دعم العرب السنّة، ويصب في مصلحة إعلام «داعش».
إن دحر «داعش» بأي ثمن قد يتم على حساب بقاء العراق دولة مستقلة، بإقامة كيان شبه مستقل سنّي وآخر شيعي إلى جانب الكردي ليصبح العراق دولة الإمارات العراقية غير المتحدة.
فقد سبق لأميركا أن غزت أفغانستان والعراق، وفي الحالين انتصرت عسكرياً وفشلت في إيجاد البديل السليم.
من هنا، أهمية محاربة «داعش» بفكر مقابل آخر، ولا أرى أكثر فاعلية من الانتماء العربي متمثلاً بالعروبة الجديدة، والتشديد على المكون العربي العراقي أو السوري بما يجمع المسلم وغير المسلم ويتجاوز المطب الطائفي.
ويمكن دول الخليج (السعودية والإمارات والكويت) والأردن ومصر تشكيل نواة البيت العربي الموحد الذي يطرح مفهوماً جديداً للعروبة يتجاوز أخطـــاء التيار القومي العربي. فأخطاء الماضي يجب ألا تــدفعنا إلى التخلي عن انتمائنا القومي، ومحاربة «داعش» يجب ألا تدفع البعض إلى التخلي عن الإسلام، بل تؤكد ضرورة استنهاض الفكر الإصلاحي متمثلاً بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وخير الدين التونسي ورشيد رضا وشكيب أرسلان وأمثالهم.
يؤكد التيار العربي الجديد خصوصية كل قطر، بخاصة في المشرق. ومثل هذا الطرح كفيل بتجاوز الانقسام الطائفي الشيعي – السنّي، ويحرم القوى الإقليمية من استغلاله. والتيار الجديد قد لا يلغي تماماً الانقسامات الطائفية لكنه من دون شك سيكون رقماً لمصلحة الوحدة الوطنية.
وقناعة قادة الخليـــج بأهمـــية «تـــوحـــيد البيــــت العـــربي» يجب أن يمهد له بمناقشات لبلورة القناعات المشـتركة، وتعميقها بما يؤدي إلى بلورة خطاب إعـــلامي عقلاني منفتح يبرز مفهوم العروبة الجديدة كمــساهمة لاستقرار المنطقة وإعمارها وإبعادها عن الحـــروب والتدخلات الأجنبية، باعتماد مفهوم الدولة القطرية الناجحة ركناً أساسياً للتنمية والإصلاح. ويتوافق الانتماء العربي مع مفهوم الإســلام الإصلاحي المتجدد الذي يجعل رفاه الإنسان وسعـــادته هدفاً، والإسلام الإصلاحي في حاجة إلى حاضــنة اجتمـــاعية، وليس هناك أفضل من الحاضنة العربية التي يسودها الإصلاح والعدالة والحرية.
والمال الخليجي ورقة رابحة إن أحسن استخدامها في تحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي للعراقيين عبر مشاريع عمرانية واقتصادية، ولنا في طريقة تعامل تركيا الأردوغانية مع خصومها التقليديين (الأكراد) مثلٌ يحتذى، عبر احتضانهم كردستان العراق اقتصادياً.
إن الاستثمار المالي الخليجي في العراق أو سورية أو مصر هو بمثابة شراء بوليصة تأمين لاستقرار الخليج والمنطقة، فليس للغرب رغبة أو قدرة على «مارشال» عربي. كما أن لبعض المشاريع مردوداً اقتصادياً للخليج يعزز حماسة دوله للمساهمة في إعادة إعمار العراق.
وتعطي أزمة النزوح العراقي الداخلي إلى الخليجَ فرصة لإعادة اللحمة الوطنية العراقية عبر بناء مشاريع سكنية وغيرها في مختلف أنحائه. كما أن التشرذم في القوى العراقية العربية في حاجة ماسة إلى مساعٍ خليجية حميدة لتقريب وجهات نظرها، وصولاً إلى تحالف انتخابي يخوض الانتخابات المقبلة.
فعودة الحياة للمكون العربي في العراق وسورية يفتح المجال واسعاً لتحالف إقليمي عربي قوي هو الأقدر على إعادة بناء نظام إقليمي يضم تركيا وإيران، كفيل بوضع الأسس لاستقرار المنطقة وإنهاء الأزمات. ومثل هذه الكتلة هي الأقدر على دعم حل الدولتين للقضية الفلسطينية، لأن بقاء الأخيرة عالقة ستظلّ شماعة للتطرف والعنف.
إن ترتيب البيت العربي خيار استراتيجي طويل الأمد يبنى خطوة خطوة، بعيداً من التوقعات والشعارات الزائفة، ورقته الرابحة بناء مجتمعات الرفاه والعدالة واحترام خصوصية كل قطر.
نقلا عن الحياة.