شكلت النزعة التوسعية، مصحوبة بوحشية وقسوة بالغة ازاء المخالف والمختلف، وخاصة المختلف دينيا ومذهبيا، التي وسمت تصرف داعش في العراق، نقطة تحول في تعاطي القوى المحلية والإقليمية والدولية مع تمدده العسكري والسياسي بدأ بتسليح قوات البيشمركة وشن غارات على قواته لتعزيز قدرة الأخيرة على مواجهة الاسلحة المتطورة وكثافة النيران التي حاز عليها التنظيم بعد حصوله على كميات كبيرة من عتاد الجيشين العراقي والسوري، ولرفع معنويات الجيش العراقي والمناطق والعشائر التي وقعت تحت سطوته.
غير ان ما تم لا يرقى الى مستوى التحدي الذي شكله داعش، خاصة وانه يمتلك عمقا استراتيجيا وخزانا للقدرات المادية والبشرية، عبر اللعب على الاحساس بالغبن والتهميش والقهر والقتل بين ابناء السنة في سوريا والعراق، وملاذا، عند الضرورة، مساحة شاسعة من الارض السورية، وان عدم مواجهة هذا الجانب سيجعل عملية مواجهته والقضاء على خطره في العراق محدودة الأثر، ان لم تكن غير مجدية على الإطلاق، لأنه سيعود بعد فترة كمون، كما حصل من قبل، الى الظهور والتمدد من جديد، ناهيك عن رد فعله الآني والذي سيعكسه ارهابا ووحشية على المواطنين السوريين كي يشل قدرتهم على استثمار تراجعه وضعفه في مواجهة القوى المحلية والإقليمية والدولية على الساحة العراقية، ناهيك عن تحريك خلاياه النائمة للقيام بعمليات ارهابية في انحاء العالم للرد على التحالف الدولي الذي تشكل لمواجهته وتخويف الدول على امنها واستقرارها ودفعها للابتعاد عن التحرك الدولي المضاد.
تستدعي مواجهة داعش والقضاء عليه، ووأد مشروعه السياسي المتمثل بإعادة بعث نظام سياسي سلطاني قمعي متسربل بشرعية دينية مدعاة، هجمة منطقية شاملة، بتعبير المفكر المستقبلي الامريكي الفين توفلر، تأخذ بعين الاعتبار مجمل عناصر المشهد السياسي والعسكري والفكري والاجتماعي والاقتصادي، والتداخل العميق بينها، بحيث تقوم الخطة على اسس ومرتكزات فكرية وسياسية وعسكرية، مع تكاملية واضحة وجازمة، تنطوي على احتواء الهجوم العسكري وصولا الى تدميره، وامتصاص اسباب التذمر والتوتر والاحتقان السياسي والاجتماعي وتطويق التوتر المذهبي والانقسام القومي برفع المظلوميات وإعادة الحقوق الى اصحابها والتأسيس لنظم تشاركية فعلية قائمة على العدل والمساواة في الحقوق والواجبات في ظل سيادة القانون والتعددية السياسية والاعتراف المتبادل بين القوى السياسية والاجتماعية والدينية والمذهبية والاثنية والقومية ومشاركتها في ادارة الدولة وفي صنع القرار السياسي والاقتصادي، وإجراء مراجعات تاريخية واجتماعية وفكرية لكشف الغطاء عن الاسس الدينية المدعاة لتبرير المشروع السياسي الداعشي، وفضح منطلقاته الضيقة والانتقائية.
ان ما يمثله داعش وأخواته من خطر داهم على المجتمعات ووحدتها واستقرارها الاجتماعي والسياسي يتطلب ردا من نفس المستوى والتأسيس لبيئة نافية لهذا التوجه والمشروع عبر اقامة نظم عادلة وديمقراطية وإقامة مؤسسات سياسية واجتماعية وإدارية تمنح المواطن فرصة التعبير عن مواقفه وقضاياه وتطلعاته بحيث يعبر من خلالها عن كل مايراه حقه فيزول مبرر الشعور بالتهميش والغبن وما يترتب عليه من توتر واحتقان وتستر وانخراط في اطر غير شرعية وعنيفة للوصول الى هذه الحقوق.
لذا وعلى ايجابية ما حصل الى الآن من تحرك اغاثي وعسكري وسياسي في العراق، وإعلامي وسياسي في الامم المتحدة، بصدور قرار مجلس الامن، والاتحاد الاوروبي ودول أخرى، الا انه اقل من المطلوب لمواجهة الخطر المصيري والأمني الذي يشكله داعش وأخواته، ما يطرح ضرورة اعادة النظر في الخطة ووضع التصور الشامل الذي يعالج كل عناصر الصورة بدءا من المساحة الجغرافية المباشرة والمحتملة ومد المواجهة الى الساحة السورية فورا لتطويق التنظيم ومنعه من اعادة ترتيب اوراقه وصفوفه، وإعطاء المجتمع السوري فرصة التحرك والانتفاض ضد القهر والوحشية والتعسف الداعشي، وتنشيط الكتائب المسلحة التي قاتلته، ومازالت تقاتله، بمدها بالسلاح والذخيرة وتشجيعها على التخلي عن ذهنية تجاهل الخطر حتى يصبح داهما، فداعش لن يترك جهة دون اخضاعها فمشروعة شمولي اقصائي مدمر، ومساعدتها على التنسيق العسكري وخوض معركة شاملة ومنسقة وعلى كل خطوط المواجهة ضد داعش بحيث تسقط تفوق داعش بإجباره على نشر قواته على اكثر من خط قتال. هذا بالتوازي مع تحرك لراب الصدع الاقليمي والدولي حول ملفات الاقليم من التوتر المذهبي بين السنة والشيعة ومستقبل الثورة السورية ومصير النظام الاستبدادي الى المشروع السياسي الايراني مرورا بحل عقدة الدولة اللبنانية وإطلاق مصالحة داخلية تبدأ بانتخاب رئيس جمهورية تمهيدا لانتخابات نيابية سلسة. فالتوافق المحلي والإقليمي والدولي الذي اتاح اخراج نوري المالكي ومجموعته من المشهد السياسي العراقي قابل للاستثمار والمد الى ملفات اقليمية أخرى مثل سوريا، بإطلاق عملية سياسية سورية تخرج الوضع من حالة الاستعصاء وتفتح الطريق امام عملية انتقالية ناجحة، وكذلك الى لبنان واليمن والبحرين.
على المجتمع الدولي بقواه الاممية والدولتية والشعبية الامساك بالفرصة، واستثمار حالة الاستنفار الاقليمي والدولي والتوافق الذي حركه سلوك داعش الوحشي ضد المجتمعات المحلية في العراق، أخذ المبادرة والتحرك العملي والجادة بتشكيل تحالف دولي سياسي وعسكري وتوظيف القوى الاجتماعية والفكرية والدينية وخوض معركة شاملة ليس ضد داعش وحسب بل وضد المناخ الذي ولدّها وسمح بنموها وتضخم قدراتها حتى باتت خطرا داهما على الجميع، لدحره وانجاز برنامج اعادة الحقوق ورد المظالم وإقامة نظم مستقرة ومزدهرة في ظل سلطات شرعية وأنظمة ديمقراطية وعادلة.
نقلا عن موقع المدن