جاء لقاء الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان في لحظة سياسية شديدة الدقة والحساسية بالنسبة إليهما. فالرجلان في حاجة الى انجازات خارجية تخفف من حدة العزلة التي يواجهانها وتمنحهما فرصة للتحرك والمناورة لمواجهة العواصف السياسية الداخلية والخارجية.
بوتين وأردوغان متفقان ومختلفان في آن، جمعهما دخولهما في اشتباك سياسي ويدبلوماسي مع قوى داخلية وخارجية، وبخاصة مع الولايات المتحدة على خلفية سياستها في ملفات اقليمية ودولية تمس بمصالحهما الوطنية. فهما متفقان في تبني كل منهما مشروعاً سياسياً طموحاً هدفه كسب النفوذ عبر لعب دور في القضايا الاقليمية والدولية وتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية لتعزيز مكانتهما الاقليمية والدولية وأمنهما القومي. فبوتين مدفوع بنزوع قومي لإعادة الاعتبار لروسيا والثأر من مرحلة الضعف والاحتقار الغربي لها، تبنى مشروعاً من شقين: الأول، هو العمل على استعادة اراض في دول الجوار يعتبرها اراضي روسية، والثاني، هو العمل على اقامة اتحاد جمركي يضم دول الاتحاد السوفياتي السابق تحت اسم الاتحاد الأوراسي، كإطار موازٍ ومنافس للاتحاد الأوروبي تهيمن عليه روسيا، يمثل برأيه عالماً بديلاً قائماً على رفض القيم الغربية.
يستند هذا المشروع على استراتيجية هجومية بهدف فرض هيبة روسيا ودورها الإقليمي والدولي. لذا شكّل منظمة معاهدة الأمن الجماعي، التي تضم حالياً ست دول هي روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزيا وطاجيكستان وأرمينيا، وعمل على تعزيز وجودها العسكري في الساحة السوفياتية السابقة من خلال قواعد عسكرية في طاجيكستان وقرغيزيا وبيلاروسيا وأوكرانيا وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وأرمينيا، وبدأ برفع الصوت ضد تمدد الحلف الاطلسي، بعد ان كان القادة الروس قد تقبلوا عمليات التوسع، حتى أنه هو نفسه عندما وصل إلى السلطة عام 2000 تحدث عن احتمال انضمام روسيا ذاتها إلى الحلف، باتجاه الشرق والذي قاد الى تفجّر الازمة الاوكرانية.
أردوغان من جهته يتبنى مشروعاً سياسياً طموحاً. فبعد ان باءت بالفشل محاولات تركيا للانضمام الى الاتحاد الاوروبي، تبنت النخبة السياسية التركية خيار تعزيز مكانة تركيا الاقليمية والدولية بالاتجاه شرقاً واستعادة علاقاتها التاريخية، لكنها انقسمت بين اتجاهين قومي يرى التوجه شرقاً وبعث الرابطة الطورانية وتوحيد العرق التركي الممتد من تركيا الى تركمانستان، واسلامي يرى التوجه شرقاً باتجاه العالم الاسلامي وبعث الدور التركي فيه. وقد دخل خيار الاتجاه شرقاً حيز التنفيذ حيث شهدت العلاقات التركية مع دول آسيا الوسطى، التي تنتمي الى العرق التركي، ايام حكومات ديميريل ويلماز وتشيلر، انفتاحاً وتطوراً كبيرين، وشهدت العلاقات التركية الاسلامية ايام حكومة اربكان القصيرة تعاوناً واسعاً بدأ بالانفتاح على ايران وتلاه تشكيل مجموعة الثماني الإسلامية، التي تضم إلى جانب تركيا أكبر سبع دول إسلامية: إيران، باكستان، إندونيسيا، مصر، نيجيريا، بنغلاديش وماليزيا. وقد تعزز هذا الاتجاه ايام أردوغان وتحت اسم لافت «العثمانية الجديدة» للتعبير عن الدور الذي يريده لتركيا: قيادة العالم الاسلامي لكن باعتماد القوة الناعمة.
لكن بوتين وأردوغان مختلفان حول ملفات سياسية اقليمية ودولية: سورية واوكرانيا خاصة. فالأول يعتبر اوكرانيا خطاً احمر لاعتبارات جغرافية سياسية وطموحات توسعية، فهي حجر زاوية الاتحاد الأوراسي، ولا معنى للاتحاد الأوراسي من دونها بسبب أهميتها الجيوستراتيجية الكبرى باعتبارها الممر السهلي لروسيا باتجاه أوروبا الغربية.
وكان زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي في عهد الرئيس جيمي كارتر 1977- 1981 قد قال: «من دون أوكرانيا لن تكون روسيا دولة عظمى». فأوكرانيا، بالنسبة للرئيس الروسي، تقع في نطاق دبلوماسية «الجوار القريب» التي اعتمدتها بلاده منذ عهد القياصرة. وهذه الديبلوماسية اتخذت بعد الحرب العالمية الثانية شكلين بارزين: إما بسط الهيمنة بـ«الواسطة» على دول «الجوار القريب»، كما كان الحال مع أوكرانيا وما هو حالياً مع طاجيكستان وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في منطقة القوقاز، أو تحييدها قسراً ومنع انضمامها إلى حلف الناتو، كما الحال مع فنلندا وبيلاروسيا. ذاك أن التحاق اوكرانيا بالاتحاد الأوروبي سيعني التزامها بعدد من المواثيق المشتركة، التي من بينها اتخاذ سياسات إقليمية ودولية تعارض مصالح موسكو، كما يرجّح أن تكون خطوتها التالية الانضمام إلى حلف الناتو، ما يعني إحكام تطويق روسيا عسكرياً، ونشر الصواريخ الغربية تحت نوافذ الكرملين مباشرة.
وبوتين يعتبر طبيعة الحل في سورية مؤشراً على موقف واشنطن من دور روسيا الدولي، فبقاء النظام السوري يعني انتصاره على واشنطن واحتفاظه بموطئ قدم على المتوسط بما في ذلك القاعدة البحرية في طرطوس والاستثمار في نفط وغاز البحر السوري واللبناني، في حين يعتبر أردوغان ان روسيا خرقت التوافق الدولي لما بعد انتهاء الحرب الباردة بتدخلها في اوكرانيا، وهذه سابقة غير مريحة لما قد يحصل مع دول أخرى من ضمنها دول في آسيا الوسطى التركية والاسلامية، ناهيك عن مسه بمصالح تركيا بتجاهله رأي تتار القرم في قضية انضمام الجزيرة اليها (كانت الجزيرة حتى 1856 جزءاً من السلطنة العثمانية). وهو يريد من الحل في سورية ان يمنحه نفوذاً فيها، وهذا غير ممكن ببقاء النظام. فسورية بوابته الى اسواق المشرق العربي، وخلال شهر العسل بين البلدين غدت سورية مدخله الى المنطقة الى حد البحث في تأسيس سوق مشتركة تضم تركيا وسورية ولبنان والاردن، وان يتجاوب «الحل» ذاك مع هواجسه الكردية بمنع أي تحرك يمنح الاكراد وضعاً خاصاً او كياناً مستقلاً.
هدف اللقاء سياسي بامتياز. فعلى رغم الوفد التجاري الكبير وعقد الدورة الخامسة للمجلس الأعلى للتعاون بين البلدين، وبحث تطوير العلاقات الاقتصادية بدءاً من زيادة التبادل التجاري بينهما من 33 مليار دولار عام 2014 الى 100 مليار دولار عام 2020، وزيادة كمية الغاز المصدر الى تركيا من 16 الى 19 مليار متر مكعب في السنة مع تخفيف وزنه، وتشجيع السياحة بينهما (زار تركيا هذا العام 5 مليون سائح روسي)…، فقد اجتمعا لتعظيم مكانة دولتيهما وتمكينها في مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية، ولإرسال رسالة الى واشنطن مفادها انهما غير معزولين ويمتلكان خيارات، وانها تخسر من عدم التعاطي ايجاباً مع مخاوفهما وهواجسهما وعدم الاستجابة لمطالبهما، إضافة الى تمتين العلاقات بسبب حاجتهما الى حلفاء ومناخ إقليمي ودولي مواتٍ لمشروعهما السياسي.
* كاتب سوري
جريدة الحياة