ما من شك في أن الأكثرية الساحقة من شعبنا قد نظرت بكثير من الإعجاب والتقدير إلى النضال البطولي الذي خاضه الأخوة والأخوات الكرد، والتضحيات الغالية التي قدموها في معارك تحرير مناطق الشمال الكردي السوري من ربقة احتلال متوحشيّ “داعش” والمرتزقة خريجي السجون الأوروبية الذين قادتهم شهوات التسلط والجنس والمال إلى بلادنا في أبشع حملة ارتزاق جندتها ورعتها أجهزة مخابرات دولية (أمريكية وأطلسية ) وإقليمية (تركية وسعودية وقطرية) وغيرها.
وينسحب الإعجاب والتقدير نفسهما إلى هيكل الإدارة الذاتية التي أقاموها في تلك المناطق المحررة والبيان الدستوري المؤقت الذي وضعوه لها بكل أبعاده الحضارية والتقدمية، (رغم ما يمكن أن يكون قد شاب الأمرين من أخطاء وإشكالات). خلافا لما قام أو لم يقم في مختلف المناطق السورية “المحررة” الأخرى التي تنازعها نفوذ الأصوليات المغرقة في رجعيتها والمافيات المتناحرة والعصابات ذات الولاءات الخارجية المشبوهة، امتدادا من “النصرة” التي ترعاها إسرائيل في الجنوب والجولان، إلى داعش التي ترعاها تركيا والمخابرات الأطلسية في الشمال والشرق.
إن هذا المستجد الكردي في قلب الأحداث السورية الدموية التي باتت تهدد الوطن كله، يعيد طرح الموضوع الوطني برمته من جديد على ضوء معطيات وقراءات أساسية لم يعد ممكنا تجنبها:
أولا: إن الوطن كله في خطر التفتت والضياع. ولم تعد المسألة مسألة تخلص من نظام استبدادي منخور بالفساد حتى العظم، بل أصبحت قضية استرداد الوطن الذي تتناتشه الذئاب من كل حدب وصوب.
ثانيا: لم يستطع النظام أن يتحمل مسؤوليات المرحلة، لا من حيث إدراك أبعادها وخطوراتها منذ البداية، ومعالجتها معالجة وطنية ديمقراطية تلبي مطالب الجماهير الشعبية التي انتفضت بشكل سلمي مطالبة بالحرية والكرامة، فلا يتركها ( وأحيانا يدفعها) للارتماء في أحضان القوى الخارجية المتربصة بالوطن السوري بكل مقوماته من كيان وشعب وجيش ودولة ومؤسسات.. ولا من حيث استدراكها فيما بعد بأن يقيم في المناطق التي استمرت تحت سيطرته حكما وطنيا ديمقراطيا راشدا يتمتع فيه المواطن بحريته وكرامته، بعيدا عن سطوة الأجهزة والتشبيح والتعفيش والنهب والخطف والتهريب وابتزاز الفديات . ولا من حيث البحث الجدي عن حلول سياسية وطنية تجذب الأكثرية الساحقة من الشعب وتجعل منها كتلة وطنية متراصة تستطيع أن تغير موازين القوى على الأرض وتجرد كل الأطراف غير الوطنية من أي احتضان شعبي مهما كانت مسوغاته ودعاواه.
ثالثا: هنا بالذات يطالعنا المستجد الكردي:
الكرد هم وطنيون سوريون حرروا الأرض التي عاشوا فيها، أرض آبائهم وأجدادهم. لا هم مرتزقة قادمون من الخارج، ولا هم أصحاب امتيازات يبيعون فيها ويشترون.
الأرض الكردية السورية هي أرض سورية لم تكن يوما أرضا محتلة، بل هي (جغرافياً وبشرياً) من مكونات الوطن السوري كما نشأ منذ البداية ووضعت خرائطه قوى خارجية لم يكن ثمة راد لسلطانها، لا كرديا ولا عربيا. وإذا كان الكرد قد عانوا فيها الكثير من القمع والتهميش على تعاقب الأنظمة الديكتاتورية التي توالت على سورية، فإن ذلك لا يختلف، إلا بالمقادير أحيانا، عما كان يعانيه معظم أبناء الشعب السوري في مختلف مناطقه على أيدي هذه الأنظمة. وإنه لأمر طبيعي جدا أن تشعر الأقلية، أية أقلية، أنها مستهدفة أكثر من غيرها، دون أن يكون ذلك صحيحا على الدوام.
هذا في الماضي، فماذا عن الآن؟
هل يستطيع الكرد السوريون أن يقيموا دولة منفصلة عن سورية؟
إن الواقع الجغرافي والديمغرافي قد يتيح للأخوة الكرد أن يقيموا حكما مستقلا في المنطقة الكردية السورية، اتسعت تلك المنطقة أو ضاقت. لكنهم بالتأكيد غير قادرين على إقامة دولة مستقلة عن سورية في حال استمرت الدولة السورية في الوجود. فلا توجد دورة حياة كاملة ومستقلة للمناطق الكردية السورية بمعزل عن الوطن السوري. فتتحول تلك المناطق إلى معزل (جيتو) محتجز ما بين بيئات معادية (تركية وسورية وعراقية) دون أي تواصل جدي مع الخارج. الأمر نفسه الذي يحصل في العراق حاليا، فبالرغم من حصول الكرد هناك على كل مقومات الاستقلال ما يزال أكراد العراق غير قادرين على ممارسة “استقلالهم” إلا من خلال دورهم الشريك في حكم العراق المركزي. وإلا سقطوا تحت نير الابتزاز التركي أو الإيراني.
ثم ماذا عن نسبة الخمسين في المائة تقريبا من الكرد السوريين المندمجين في المجتمع السوري خارج المناطق الكردية السورية (في دمشق وحلب وحماه وغيرها)؟! والذين كان لهم دور كبير في تأسيس الدولة السورية الحديثة وإدارتها منذ الاستقلال؟!
بناء على كل ما تقدم يمكننا القول، وبمنتهى الثقة، إن استقلال الكرد السوريين في المنطقة الكردية السورية يجب ألا يثير أية مخاوف لدى السوريين الآخرين. فمهما كانت حدود ذلك “الاستقلال” سيظل محكوما بالشراكة داخل الحكم الوطني المركزي في دمشق. وهي شراكة لا يمكن أن تتوفر لا للكرد ولا للعرب إلا من خلال نظام ديمقراطي تعددي يوفر الحرية والكرامة لجميع المواطنين على اختلاف مكوناتهم.
هل يتعارض هذا الوضع مع الطموحات الوحدوية للشعب العربي السوري؟
كلا.. فالكرد ، مثل العرب، شعب مزقته الخرائط الاستعمارية وتركته متوزعا على عدد من الدول والأقطار في المنطقة، بعضها عربي كسورية والعراق ولبنان وحتى فلسطين، وبعضها غير عربي كتركيا وإيران. فلنفترض مثلا أن ظروفا (كالحلم) ستحصل يوما ما يتمتع فيها الشعبان السوري والعراقي بنظامين ديمقراطيين مزدهرين..هل ثمة ما يمنع آنذاك من قيام اتحاد بينهما يشمل عربهما وكردهما بما في ذلك منطقتا الحكم الذاتي الكرديتان في البلدين!!
أكثر من ذلك لنفترض أن مثل هذا الاتحاد قد نضجت ظروفه التقدمية التي نتحدث عنها بين سورية والأردن حيث لا توجد منطقة حكم ذاتي كردية، ما الذي سيجعل الأخوة الكرد يعارضون مثل هذا الاتحاد الذي يعود على البلدين بالخير طالما أنه لا يؤثر على حقوقهم ومكاسبهم في منطقة الحكم الذاتي الكردية داخل سورية، ولا على دورهم