قصة الإنسان مع الموت طويلة جدًا، وقديمة، بدأت بحياته على وجه الأرض، ومازالت. احتفت بالكثير من الأوهام والخيالات، إضافة إلى الأساطير والخرافات، ورافقتها في ذلك أحلام خصبة وواسعة، كانت كلها تدور حول فكرة التخلص منه، ومحاولة البقاء حيًا، ونيل الخلود.
وكلما تشدد الموت في حصد أرواح البشر، حاول أولاء بقوة وعناد البحث عن الخلود، على الرغم من معرفتهم بعجزهم أمامه، وعدم قدرتهم على مواجهته، وضعفهم واستسلامهم له بكل سهولة، فالموت قارع الرجال، الكبار، والصغار، وخر أمامه الجبابرة والأبطال الذين حققوا بطولات عظيمة في التاريخ، لكنه آت لا محالة، فأين المفر؟ والإنسان إذ يهرب من الموت، فإنه يهرب منه إليه.
لقد تناول فكرة الموت الكثير من الأدباءوالمفكرين في أعمالهم، ولا نكاد نجد كاتبًا لم يتطرق لهذه الفكرة بطريقة أو بأخرى، فمنهم من لم يبال به، أو بما بعده كثيرًا، ومنهم من يتحدث عن حتمية القدر، والنهاية التي سيلاقيها بعد موته، والألم الذي يشعر به؛ لأنه سيغادر الحياة، والشقاء الذي يسببه له هذا الكابوس الدائم، الذي يركض خلف الإنسان كظلّ له، يلتصق به، ويعيش معه حياته كلها، وما إن يأتي حتى ينهي حياته، ويطوي صفحته من الوجود.
ومنهم من خاطبه، وتحدث إليه، وتحدّاه كبطل دون خوف، كالكاتب التركي عزيز نيسين، الذي عاش تجربة حياتية مريرة، دخل السجن مرارًا، وعانى الشقاء في عمره، لكنه كان دائم التفاؤل، يحاول أبدًا أن يجعل الحياة جميلة من حوله، لأنها مفعمة بالسعادة، وتستحق أن تعاش، كما تستحق أن يشقى المرء في سبيلها.
يقول في رسالته التي خطها إلى الموت، مؤنسنًا إياه، جاعلًا منه ندًّا: “إنني بذلت كل ما استطعت من جهد لأضيف ألوانًا أخرى من الجمال إلى هذا العالم الجميل المفعم بآيات لا حصر لها من الجمال، هل يحق لنا أن نلغي وجود جزيرة جميلة لا حد لها؟”.
فهو يدرك جمال الحياة، وقيمة العيش فيها، أن تعيش فيها يعني أن تحاول كل ما تستطيعه من أجل جعل هذا الكوكب جميلًا، مليئًا بالسعادة التي وهبت للإنسان، أو التي يهبها الإنسان لنفسه.
دأب عزيز نيسين على زرع السعادة في قلوب الآخرين، وجعلهم في منتهى الغبطة. وكما هو معروف عنه أنه كاتب قصصي ذو أسلوب خاص به، فلم يكن يتمنى أن يُشعر الآخرين بالحزن والأسى، ويريق دمعة واحدة من عين شخص ما، حتى في موته.
وهو يخاطب الموت قبل مجيئه قائلًا له: “لا تأت مصحوبًا بالصخب؛ فأنا لا أريد أن يسمع أحد بمجيئك لزيارتي، فأنت حين تأتي من أجلي، أنت آتٍ لتأخذني، لا لتقضّ مضاجع الآخرين”. إنه يتمنى أن يأتيه الموت، وهو وحيد في منزله، أو في أي مكان آخر، ولا يريد ان يسمع أحد بمجيئه إليه.
نبله أنه كان يريد أن يجعل من شقائه سعادة للآخرين، فكما اعترف في رسالته، لقد تحمل كل ما عاناه وحده، دون أن يشرك الآخرين بآلامه التي خبأها لنفسه: “لقد تحملت كل ما عانيت ضاحكًا، ولم يعلم به أحد سواي، أحزاني خبأتها لنفسي، أما أفراحي فكنت أتقاسمها مع الآخرين”.
يقر بقوة الموت، وأنه ما انحنى في حياته لأحد، ولا استكان، لكنه سيرضخ للموت وحده، لأنه أقوى منه: “أنا أعرف أنك قوي، رأسي الذي لم ينحن لأحد، قد انحنى لك أنت”.
ومع ذلك، وجدناه يتحدى الموت حتى النهاية: “حياتي كلها أمضيتها، وأنا في صراع معك، ندًّا لندّ، كثيرة هي المرات التي تلقيت فيها الهزيمة، روحي، وهي أقدس ما عندي، أريد أن أعطيها برجولة، بوقار، واقفًا، مرفوع الرأس”. أتساءل كم من الأشخاص الذين استطاعوا أن يفعلوا ما فعله نيسين في علم السيمياء الأدبية، أن يحولوا دموعهم إلى ابتسامات مرسومة على شفاه بريئة، وقلوب بائسة؟
فهو بإرادته القوية حاز الإعجاب، ومحبة الناس، لأنه قدم الكثير، وأعطى حتى الرمق الأخير في عالم تعوّد أهله على الأخذ، لا العطاء.
هل أمثال هؤلاء يرحلون بمجرد أن يطالهم الموت؟ أو يواريهم الثرى، أم أنهم يحيون كل يوم مع كل قراءة، أو كل استشهاد بهم، حيث تبقى تجاربهم عِبرًا يتعلم منها اللاحقون، ليقتدوا بها، وليسعوا بكل ما أوتوا من قوة لتحويل العالم إلى روضة يعمّ فيها الخير، ويجللها الجمال، لا عالمًا يسوده القتل والتدمير، وتحكمه القوة.
وهنا يطرح السؤال نفسه: هل فعل الكتّاب في الأحداث التي تدور رحاها على الأرض السورية ذلك، أو في أية دولة قامت فيها هكذا أحداث، وارتكبت فيها المجازر، والفظائع، هل التفت أحدهم إلى صرخة طفل، أو بكاء أم ثكلى، هل رثى أحدهم المدن التي تهدمت بعضها عن بكرة أبيها، ولم يبق منها إلا الموت والحطام والدمار؟
أما كان الأجدر بالكتابة وهي تسبر في مجالها كل العوالم، أن تعير الموضوع اهتمامًا أكثر، وتقف على كل الأحداث الدائرة في محاولة لزرع ابتسامة على وجوه البشر أينما كانوا، لا أن يسردوا قصص الموت التي تحدث كل يوم مثلها مثل وسائل الإعلام التي لا تكلّ عن الإشارة إليها كل يوم؟
——
عن: gate.ahram.org.eg