تبدو بغداد مرتبكةً في هذه الأثناء، وقلقة فيما تتابع الزيارات واللقاءات التي يجريها السيد مسعود برزاني رئيس إقليم كردستان العراق في عواصم غربية، وذلك بغية انتزاع أكبر قدر ممكن من الدعم الدولي الرسميّ، والتماس العون لأجل إعلان جمهورية “كردستان” على أراضي الإقليم دون سواه من الأجزاء “الكردستانية” الأخرى. تنصب الجهود خلال اللقاءات الحاصلة على صيغة مكشوفة في العمل الدبلوماسي وهي “جس النبض الدولي”.
وطبيعي أولاً أن الزيارات قد استُهلت بلقاء الرئيس الأمريكي أوباما، وطبيعي ثانياً ألا يقفز الإقليم فوق إرادة الإدارة الأمريكية في هذا الخصوص ، وطبيعي أيضاً أن لا يبدر شيء واضح من الإدارة الأمريكية بشأن النية الكردية إعلان الاستقلال. إذ بات واضحاً من منهج الإدارة الأمريكية غير الواضح من مجمل أحداث المنطقة، ولعل تغليف اللقاءات بمسألة حيوية، وهي التماس الكرد الدعم الدولي لمجابهة داعش يعطي قيمةً إيجابية للمحادثات الجارية.
تنوس مسألة إعلان الاستقلال / الجمهورية الكردية بين احتمالين لا ثالث لهما؛ إما المضي قدماً نحو الاستقلال بصيغة “ليكن ما يكن”، أو التوقف عند الفدرالية واعتبارها صيغة واقعية منجزة لحل المسألة الكردية في العراق. يحدث هذا كردياً في لحظة تعصف التغيرات والفوضى العارمة بالمنطقة، حيث حفلات القتال الواسعة الممتدة في كثيرٍ من بلدان المشرق العربي، وتهتك الحدود بينها وتخبط الحكومات والشعوب، وللعراق حصته الكبيرة منذ عقود من الفوضى والاضطراب وعدم التجانس الوطني.
الأوساط السياسية العراقية من ضمنها حكومة العبادي تبدي شكوكها من لقاءات البرزاني ومخاوفها المتصلة، فبغداد ليست في وضع قوي ومتماسك يسمح لها بالحؤول دون تنفيذ هذا المطلب، إذا ما قرر المجتمع الدولي تأييد المطلب الكردي. كما لا تملك الحكومة العراقية القدرة على مخاطبة العالم والمطالبة بعدم الإصغاء للمطالب الكردية في ظل الهشاشة والضعف الذي يعتور جسد العراق كدولة ونظام حكم، في وقت بات مسموحاً القول، إن القوة المتماسكة الوحيدة التي واجهت داعش بشكل جدي كانت قوات البيشمركة، وبمعنى أوسع كان الكرد. ففي الوقت الذي حوّلت حرب داعش قوات توصف على الدوام بالميليشيا كالبيشمركة إلى جيش منظم يمتلك قدرة على الثبات والمبادرة، تحوَّل الجيش العراقي إلى مجرّد ميليشيات أو ذكرى جيش في أفضل الأحوال، ولعل هذه المفارقة ليست مثار تندر وسخرية فيما خص الجيش العراقي بقدر ما هو تراجيديا كاملة، تراجيديا نهاية احتكار الدولة للعنف.
للبرزاني في جواره خصوم فيما مضى كحال تركيا التي صارت أبرز شركاءه في الاقتصاد والاستثمار والسياسة الإقليمية، وتركيا إلى الآن لم تبدِ ما يعبّر عن قلقها من جولات البرزاني الأخيرة، والغالب على الظن أنها تحار في أمر التعرّض “للاستحقاق” الكردي، لكن ليس إلى درجة أن تدفعها الحيرة إلى القول: “لا” كبيرة لتطلعات جيرانها الكرد، سيّما أن تجربة حكومة العدالة والتنمية في احتواء صيغة الفدرالية الكردية وتمتين العلاقات مع الإقليم جاءت بخطى ثابتة دون الخشية من أن تلقي هذه العلاقة – الاعتراف بظلالها على أوضاع كرد تركيا وتوسيع مطامحهم.
بالقياس ذاته: للبرزاني في جواره خصم هي إيران التي بقيت خصماً أو لنقل تحولت إلى قوة اعتراضية برتبة “شرطي المنطقة غير المطوَّب”، والتي لا تتوانى في دعم معارضي البرزاني، ولا جديد إن قلنا أن الأمر يأتي في سياق سباق تركي – إيراني على بسط النفوذ والهيمنة على الإقليم.
أما داخل كردستان العراق نفسها، لا يبدي خصوم البرزاني “المؤتلفين معه في ذات الوقت” دعماً جدياً أو حماسة تذكر لخطوات الرئاسة هذه، والغالب على الظن أن مشروع الاستقلال سيضعف من شعبية الأحزاب المنافسة لحزب البرزاني التي أخذت في فترة سابقة تعضُّ بالنواجذ والأسنان على ملفها الأثير، ملف استحقاق رئاسة الإقليم التي شارفت فيها ولاية السيد مسعود على نهايتها، حيث لا سبيل سلس للتمديد إلا بتغير شكل الحكم من نظام فيدرالي إلى دولة منجزة. وهنا يكمن الفكاك من عقدة التمديد إن صح التعبير، بحيث يؤدي التحول هذا إلى إلغاء كل أثر رجعي للقوانين الفيدرالية في ما خص الترشح للرئاسة، أي أن قلق خصوم البرزاني منصبٌ على الارتباط بين العام (الوصول إلى الاستقلال) وبين الشخصي (ترشح البرزاني).
ليس أمر حصول إقليم كردستان لرقمها ومقعدها بين دول الأمم المتحدة بالأمر الهين، ليس سهلاً بالمطلق أن يعبر الكرد جبال اللاءات التي تحول دون وصولهم هذا، لكن في الأذن ثمة همس يأتي من أروقة السياسة الغربية يمكن سماع جملة قد تكون: نريد إنجازاً بين تلال الخيبات التي أمامنا في الشرق الأوسط، وليكن استقلال الكرد إنجازنا
نقلا عن http://www.ana.fm/