في حزيران 1772، قصفت القوات الروسية بيروت واقتحمتها ثم احتلتها، وكانت يومها حصنا على ساحل سوريا العثمانية. لدعم حليفهم، الطاغية العربي الذي لايرحم. عندما عادوا في العام التالي، احتلوا بيروت لما يقرب من ستة أشهر. ثم كما هو الحال الآن، وجدوا سوريا مرجلا يغلي من الصراع بين الفصائل العرقية، وحاولوا تهدئتها بالمدافع والبارود. اليوم، لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دوافع كثيرة في سوريا، ولكن علينا أن نأخذ في الاعتبار رؤية روسيا لمهمتها التقليدية في الشرق الأوسط، والتي يعرفها الكرملين، قال المتحدث باسم الكنيسة الأرثوذكسية الروسية “ان تدخل السيد بوتين في سوريا كان جزءاً من الدور الخاص الذي تلعبه بلادنا دائما في الشرق الأوسط.“ عينت روسيا لنفسها دوراً في المنطقة كمدافع عن المسيحية الأرثوذكسية، ورثته – كما ادعت – من القياصرة البيزنطيين بعد سقوط القسطنطينية عام 1453. ووفقاً لهذا الدور اصبحت روسيا حامية للنصارى في البلقان والعالم العربي بما في ذلك الاماكن المقدسة في القدس التي كانت تحت السيطرة العثمانية منذ 1517. بدأ أول تدخل رئيسي روسي عام 1768، عندما أعلنت كاترين العظمى الحرب على العثمانيين أبحر شقيق عشيقها اليكسي أورلوف بأسطول البلطيق عبر مضيق جبل طارق لحشد المتمردين في منطقة البحر الأبيض المتوسط. دمر أورلوف الأسطول العثماني في شيسم، وبعد ذلك هيمن الروس مؤقتا على شرق البحر المتوسط. وفي الوقت نفسه، كان الرجال العرب الاقوياء في مصر وسوريا (كانت سوريا تضم لبنان واسرائيل) علي باشا وضاهر العمر قد تعاونا مع الروس للأستيلاء على دمشق من العثمانيين ولكنهما فشلا، ووافق أورلوف وكاترين على مساعدتهما مقابل حيازة القدس. قصفت سفن أورلوف المدن السورية، واخيراً احتلت بيروت. ترك الروس سوريا عام 1774 متخلين عن حلفائهم مقابل تنازل العثمانيين عن أوكرانيا والقرم. ضمت كاترين وشريكها الأمير بوتيمكين شبه جزيرة القرم، وأسسا أسطول البحر الأسود ثم حاولا التفاوض على قاعدة مينوركا. وجد خلفاء كاترين أنفسهم صليبيين، مع قرار روسيا في حكم القسطنطينية والقدس. في النهاية أدى هذا الطموح – اضافة الى شجار على كنيسة المهد في بيت لحم، بين الأرثوذكس الذين تدعمهم روسيا، والقساوسة الكاثوليك المدعومين من فرنسا – إلى حرب القرم. أقنعت هزيمة روسيا في عام 1856 الكسندر الثاني إلى التراجع عن استخدام القوة العسكرية للسيطرة على القدس، مفضلاً الدبلوماسية والقوة الناعمة. ولكن خلال الحرب العالمية الأولى احتلت القوات الروسية شمال بلاد فارس وغزت العراق العثماني، ووصلت مشارف مدينة بغداد. في عام 1916، تفاوض وزير الخارجية نيكولاس الثاني، على معاهدة سايكس – بيكو، التي وعدت روسيا باسطنبول، وبأقسام من تركيا وكردستان، وحصة من القدس – امبراطورية الشرق الأدنى أحبطت من قبل الثورة البلشفية. ورث الاتحاد السوفيتي نسخة علمانية من هذه الأحلام: في بوتسدام عام 1945، طالب ستالين عام 1945”الوصاية“ على طرابلس وليبيا، واعترف في وقت لاحق بإسرائيل، على أمل الحصول علي قاعدة في البحر الأبيض المتوسط. ورفض طلبه، لكن الحرب الباردة جعلت من روسيا قوة في الشرق الأوسط، اذ دعمت جمال عبدالناصر بحوالي خمسين ألفا من المستشارين السوفييت. تدخلت روسيا في القتال الاسرائيلي – المصري في حرب الاستنزاف 1967-1970، وخلالها كان الطيارون السوفييت يتبارزون مع الإسرائيليين، ثم طردهم أنور السادات خليفة عبدالناصر. لقد ساعد الروس ثلاثة من الحكام المستبدين، معمر القذافي في ليبيا، صدام حسين في العراق وحافظ الأسد في سوريا. هؤلاء الثلاثة قادوا انظمة لاترحم تديرها مافيات عائلية وراء واجهة من الأحزاب الاشتراكية، والتخطيط المركزي: الجنرال الأسد والعقيد القذافي يلتقطان بانتظام صوراً وهما يعانقان الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي ليونيد بريجينيف. لقد تدرب الجنرال الأسد كطيار في روسيا ومنح موسكو منفذاً الى قاعدة طرطوس البحرية. بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991، انهار النفوذ الروسي واستاءت موسكو بشدة من التدخلات الغربية التي دمرت صدام حسين والعقيد القذافي. التراجع الأميركي من المنطقة منح السيد بوتين – الذي يرى نفسه في تقليد متواصل من القيادة الشخصية من القياصرة إلى اليوم – الفرصة لزعزعة الهيبة الأميركية في المنطقة وابراز روسيا كقوة لا غنى عنها في عالم اليوم – إنقاذ السيد بشارالأسد الذي يقاتل المعارضة وداعش، يتوافق مع نضال روسيا ضد الجهاديين الشيشان الذين يتدفقون الى سوريا بلافتات الخلافة السوداء. ستراتيجية بوتين في سوريا هي امتداد لاستراتيجية كاترين التي انتهت بضم شبه جزيرة القرم، وستنتهي في عهد بوتين بأنهاء العقوبات الغربية وبتأمين ضم شبه جزيرة القرم. تؤمن سياسة حب الظهور العسكري لبوتين البقاء السياسي، ودفاعه عن المستبد في سوريا هو دفاع عن سلطته ضد التمرد الداخلي. صيغة السلطة في روسيا هي: الاستبداد في الكرملين مقابل الأمن والرخاء في الداخل، والمجد في الخارج – وحتى الآن على الأقل، هناك بريق من الإثارة في هذه المغامرة الشرقية، يبثه تلفزيون “بيو كيستي“ مع قصف طيارات سوخوي. عندما استهل ألكسندر الثاني الحروب الآسيوية الغريبة، كتب واحد من وزرائه هو كونت فالويف، “هناك شيء مثير حول كل الأمور التي تجري على حدودنا البعيدة“. تفتقر موسكو إلى الموارد اللازمة للحلول محل أمريكا وسوف تجد أمامها في سوريا مستنقعاً، لكن الروس يعولون كثيراً على الجرأة في عالم يزداد توحشاً ويشعرون بأن روسيا الإمبراطورية لاعب دائم في الشرق الأوسط. نيويورك تايمز ترجمة: اسماعيل شاكر الرفاعي
نقلا عن : pukcc