فيما كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يربت على كتف نظيره الأميركي باراك أوباما محاولاً تجاذب أطراف الحديث معه لاسترضائه، أتى الإعلان من موسكو عن تدشين روسيا مركزاً للحرب الدعائية، يوحي باستعادة «البروباغندا» السوفياتية خلال الحرب الباردة.
ليس هناك تناقض بين هذا الإعلان وسلوكيات الرئيس الروسي حيال نظيره الأميركي خلال قمة «آبيك» في بكين، بل لعل هذه السلوكيات أتت مكملة للبروباغندا أو جزءاً منها، لإظهار بوتين راغباً في الانفتاح على أوباما الذي لوحظ شيء من «الفتور» في تجاوبه مع نظيره الروسي.
ليس الروس طارئين على «البروباغندا» فقد استخدموها منذ أيام لينين لتحريك الجماهير والسيطرة عليها، كما وقعوا ضحيتها في مناسبات عدة، لعل أخطرها عندما نجح النازيون في إقناع الرأي العام الألماني بأن الشيوعيين هم الذين أحرقوا مقر «الرايشتاغ» في برلين عام 1933.
وما زال النقاش مفتوحاً حول دقة الكلام عن أن الأميركيين كسبوا الحرب الباردة بتغلبهم على السوفيات في مجال «البروباغندا»، طالما أن أحداً لم يستطع قياس أهداف الدعاية السوفياتية وتوجهاتها آنذاك، لكن الأميركيين فشلوا حتماً في الاستفادة من انهيار الاتحاد السوفياتي لأنهم لم يتبعوا نظرية الباحث الاجتماعي إريك هولدر القائلة إنك «إذا لم تحوّل عدوك المهزوم إلى صديق، فأنتَ لم تنتصر في الحرب».
لا شك في أن الأميركيين ابتكروا الصيغة الناعمة للحرب الدعائية، مستفيدين من فنون العلاقات العامة ووسائل «الميديا»، وهي مدرسة أسسها إدوارد بيرنيز (النمسوي الأصل وابن أخت سيغموند فرويد) الذي كان عمله محورياً في الترويج لـ «الدور التحرري للولايات المتحدة» منذ الحرب العالمية الأولى، من خلال عضويته في لجنة استحدثتها واشنطن آنذاك لهذا الغرض.
في المقابل، كانت هناك مدرسة «التهييج والشعارات والأناشيد»، السوفياتية والتي ورثت الأنظمة العسكرية في المنطقة فنونها، فأتقنتها أي إتقان!…
المركز الإعلامي الروسي الجديد يعمل فيه مئات الصحافيين، ومهمتهم مواجهة الدعاية الغربية «العدائية». وأطلق عليه اسم «سبوتنيك» في تذكير لا يخلو من مغزى، بسباق القوتين العظميين على غزو الفضاء في خمسينات القرن الماضي.
ولا شك في أن آثار هذه الدعاية ستصل إلى منطقتنا إن لم تكن أحد أهم أهدافها أساساً، علماً أن المركز ستكون له فروع في عشرات المدن، بينها واشنطن ولندن وبرلين وباريس، وسيبث دعايته بلغات عدة، مستخدماً وسائل الإعلام والإنترنت وتطبيقات الهواتف المحمولة ووسائل التواصل الاجتماعي، أي العدة ذاتها التي ابتكرها الغرب.
والرسالة واضحة وهي تلك التي عبر عنها بوتين، في مناسبات عدة، آخرها قوله إن موسكو «لا تريد الحصول على ما ليس لها، لكنها لن تسمح بالتطاول على مصالحها»، مرفقاً ذلك باتهامه أوباما باعتماد موقف معاد لروسيا، رداً على تنديد سيد البيض الأبيض بـ «العدوان الروسي في أوروبا» (يقصد أوكرانيا)، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) الماضي.
وسيكون للروس الكثير ليقولوه في طريقة إدارة السياسة والاقتصاد في العالم، وما تسببه «هيمنة» الدولار من تضخم عالمي يعيق سبل التنمية.
وإذا كانت دعايات الدولتين الكبريَين تفترض ضمناً مقداراً كبيراً من الخداع، فإن بقية العالم ستكون بلا شك عالقة بين «خداع» و «خداع مضاد»، بحيث يصبح مجرد «قول الحقيقة عملاً ثورياً»، كما كان يقول الكاتب البريطاني الشهير جورج أورويل. فهل تنجح روسيا في إزالة الصدأ عن أبواقها، لتصدر موسيقى ناعمة محببة، بدل أن تزيدنا ضوضاء وصخباً؟