نشب خلاف بين رجالات، ولا نقول تيارات «هيئة التنسيق الوطنية» السورية، على خلفية اجتماعين منفصلين لأعضائها، الأول في القاهرة، بحضور هيثم مناع الرئيس السابق لفرع المهجر، مع بعض أعضاء الائتلاف الوطني، ليس من بينهم «إخوان مسلمون»، إذ رفضت مصر حضورهم. والآخر في باريس شارك فيه خالد عسراوي وصفوان عكاش، وضمّ من جانب الائتلاف أعضاء من «الإخوان المسلمين».
وصف أحد الصحافيين المقربين من هيثم مناع، الحال بأنها صراع بين محورين: محور القاهرة – السعودية، ومحور تركيا – فرنسا. هذه النظرية تفترض أن الهيئة تعيش، أو ستعيش، صراع محاور كما الائتلاف وسورية عموماً.
الحقيقة أن «هيئة التنسيق الوطنية» حافظت على مسافة مناسبة من المحاور والتدخلات الخارجية في العمل الوطني، فهي وإن أُخذ عليها استمرار التواصل مع الروس، إلا أن خياراتها بقيت مستقلة عن الأجندات الدولية والإقليمية.
هذه السياسة تدين إلى المحتوى النظري الذي يجمع مكونات الهيئة، من أحزاب وأفراد، وقد استطاعت التمييز بين البرغماتية السياسية التي أظهرها الائتلاف والانتهازية، التي تفصلهما عن بعض شعرة فقط. هذه البرغماتية المزعومة كانت السبب في خيارات مدمرة للائتلاف فأصبح رهن الإرادة الخارجية. ومعلوم كيف قررت هيلاري كلينتون أن المجلس الوطني «انتهت صلاحيته».
لم يقتصر خطأ الائتلاف على شرعنة التدخل الخارجي، بل كانت برغماتيته المزعومة سبباً مهماً ًفي شرعنة السياسة العنفية وحمل السلاح في الصراع الوطني ملاقياً النظام في ذلك.
غالبية القوى السياسية التي تشكّل الهيئة هي علمانية يسارية، وبالتالي لا تجد ضالتها لا في الإمبراطوريات الدينية في المنطقة ولا في الحيتان الرأسمالية العالمية. كما أنها أدركت أن التسليح والانخراط في سياسات المحاور، سيؤولان بالحال السورية إلى حرب طائفية بامتياز، لذا أطلقت لاءاتها الشهيرة: لا للطائفية، لا للعنف، لا للتدخل الخارجي.
لكن السؤال المهم الذي يجب طرحه في هذا السياق هو: ما هي الأخطار التي تهدد الهيئة ككيان سياسي؟ ما حقيقة التراشقات الإعلامية والاتهامات المتبادلة بين فرع المهجر والمكتب التنفيذي في دمشق؟
لا توجد على الساحة السورية تنطيمات سياسية ذات «تنوع ديموغرافي»، كما هي الحال في هيئة التنسيق، فهي تضمّ عناصر وتيارات تنتمي إلى جميع مكونات المجتمع السوري، باستثناء «الإخوان المسلمين». علماً أن بعض من هم ذوو خلفية إسلامية هم أعضاء في الهيئة، ولا تتعلق تركيبة هيئة التنسيق بجملة علاقات دولية متغيرة كحال الائتلاف، وخلافاً للائتلاف ليست الهيئة مرتبطة مادياً بأنظمة وحكومات.
أهم الأخطار التي تهدد هيئة التنسيق، ناجمة عن أنها لم تستطع طوال الوقت بناء آلية ديموقراطية مؤسساتية لصنع القرار الذي يعبّر عن مكوناتها ويلزمهم بها. على العكس من ذلك، كان قادة الهيئة عاملاً حاسماً في تسرّب كثر من أعضائها. بعضهم انضمّ إلى «المنبر الديموقراطي» وغيره، فيما امتنع أكثرهم عن الدخول في تيارات سياسية أخرى، وكان بين نارين: نار الديكتاتور الصغير في الهيئة، ونار تقاطعه مع الخط السياسي العام للهيئة والحسرة بسبب عدم القدرة على العمل فيها وتفعيل دورها. يُفترض هنا أن العامل التنظيمي هو ما يهدد الهيئه ككيان، وهكذا تكون الكتل السياسية المتخلفة تنظيمياً، بغض النظر عن الخلفية النظرية، معاقة وتحتمل خطر السقوط.
الانقسام في هيئة التنسيق حول اجتماع بعضهم مع أعضاء الائتـــلاف والموقف من لقاء القاهرة، ليس خلافاً سياسياً بحدّ ذاتـــه، فليس من التقى «الإخوان» في باريس يشاطرهم مواقفهم، ولا من رفض هذا اللقاء هم «صقور» الهيئة والقاطعون مع الائتلاف أو «الإخوان». الانقسام نابع بالدرجة الأولى من خلل تنظيمي في الهيئة يعطي مساحات فردية لقادتها خارج إطار عام يحكم سياستها.
لا توجد آلية ديموقراطية تمثيلية لاتخاذ القرار في الهيئة، ولم تستطع منذ إنشائها، بناء جسم سياسي مؤسساتي. وهي بذلك تتخلّف الى حد ما عن الائتلاف، وقد أدى ذلك إلى سيطرة بعض رجالها على مصيرها مادياً وسياسياً. ولتبقى ذراعهم هي الأعلى، قزّم قادتها كل حراك ديموقراطي في بنيتها، وباتت الانتخابات التي تجري داخل الهيئة شكلية لا تستطيع تأطير طاقات جديدة.
إن أي سياسي يبحث في عمله السياسي عن الدور والمكان اللذين يستطيع بهما إفراغ طاقاته هذه، وعلى المنظمة السياسية أن تؤمّن هذه الإمكانية وإلا سيتسرّب عناصرها منها الواحد تلو الآخر. وهذا ما حصل في هيئة التنسيق عموماً وفرع المهجر خصوصاً. فبعد كل اجتماع ومؤتمر وبعد كل انتخابات، تنتهي وظيفة المشاركين بل وحتى أعضاء قياداتها الجدد، ويصبحون مجرّد متلقّين لأخبار الهيئة من وسائل الإعلام.
لقد عمل بعض رجال الهيئة على بناء كتل وتجمعات داخلها لتقوية مكانتهم، فأصبحت المصالح الحزبية والشخصية أهم من مصلحة الهيئة العليا، وفي كل انتخابات لفرع المهجر مثلاً، جرى استثناء الأعضاء القدامى بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، لتصبّ نتيجتها في حقول محدّدة سلفاً.
علينا هنا ألا ننسى أن اعتقال عناصر مهمة في الهيئة، كعبد العزيز الخير ورجاء الناصر وغيرهما، أدّى بصورة مباشرة إلى الحد من فاعليتها، فقد ساهم غيابهم في تمركز السلطة في الهيئة (على سياستها) بأيدي عدد أقل من الأشخاص، حيث أن العناصر الجديدة لم تأخذ مواقعها إلا شكلياً، وراحت تدور في فلك «المحاربين القدامى».
تبدو الأمور وكأن هيثم مناع قد قرّر وحسم أمره بالانفصال عن الهيئة رسمياً. وما استقالته العام الماضي من فرع المهجر لمصلحة خلف داود (وهو من الأشخاص الذين التقوا أعضاء الائتلاف في باريس)، ثم تشكيل تياره الجديد «قمح»، إلا ثمرة عمل مع بعض رجال الهيئة للانفصال عن الجسم الأم. هكذا يمكن فهم التراشقات الإعلامية والاتهامات الأخيرة المتبادلة في صفوف الهيئة.