رستم محمود: كردستان… وعودة «القجقجي» في مواجهة حصار الجيران

Share Button

يتحسس المواطنون في إقليم كُردستان العراق آثار الحِصار الذي تفرضه الحكومة المركزية ودول الجوار عليهم، ويتوقعون المزيد منه خلال الأسابيع والشهور المقبلة. في الأحاديث اليومية العامة، ثمة تساؤل حول الحلول التي يُمكن اتباعها، إذا تعرض الإقليم لحِصار مُحكم، ولم يعد له أي منفذ «شرعي» مع العالم الخارجي.

في ظل هذا الجو، تنمو حاستان قوميتان كُرديتان دفينتان. تذهب الأولى للحسرة على «القدر الجُغرافي» الذي يلاحق الكُرد. إذ يقول الناس: «فقط لو كان لنا ميناء صغيرٌ على البحر!!»، يعززون به ما كان دارجاً في أدبهم الغنائي طوال القرن العشرين، حيث الحسرة على أن «كُردستان» التاريخية مُحاطة بسورٍ من القوميات التي «لا تعترف بالآخر».

الحاسة الثانية تتعلق بالإيمان بالمصير المُشترك الذي يجمع مختلف الأطراف الكُردية، على رُغم تباين المواقف والخيارات السياسية. يذكر الناس هذه الأيام التبدل العجائبي الذي طرأ على علاقة كُرد العراق بنظرائهم السوريين خلال الشهور الأخيرة.

فطوال سنوات، كانت المناطق الكُردية السورية مُحاصرة تماماً، إذ كانت تُركيا أغلقت كل المنافذ الحدودية الشمالية مع مناطق سيطرة القوات الكُردية، ولم تسمح بأي تنقل للسُكان بين طرفي الحدود، فوق ذلك بنت سوراً على امتداد الحدود بينها وبين المناطق الكُردية. فعلت ذلك، على رُغم حفاظها على حركة تبادل حيوية مع بقية المناطق السورية المُسيطر عليها من جانب المعارضة السورية، حتى تلك المناطق المُحتلة من التنظيمات المُتشددة. كان الحِصار التُركي يُضاف لما يُناظره جنوباً من جانب تنظيم «داعش»، الذي كان يمنع التبادل التجاري والتنقل بين تلك المناطق وباقي المناطق السورية.

طوال تلك السنوات، لم يكن للكُرد السوريين سوى منفذ «سيمالكا» الحدودي مع كُردستان العراق، الذي كان معبرهم الوحيد الى العالم الخارجي. فمنه كانت تتدفق البضائع التجارية والمواد الضرورية، بالذات الأدوية والأسلحة، وعبره تنقل عشرات الآلاف من المهاجرين الكُرد والمرضى وجرحى المعارك والطُلاب.

في الأسابيع الأولى لعودة المناطق الكُردية السورية للتواصل مع بقية المناطق السورية، وبالتالي مع العالم الخارجي، فإن كُردستان العراق صار يواجه إمكان حدوث حصار تام عليه، ما دفع قيادات من الإدارة الذاتية الكُردية السورية للتصريح بأن منفذ «سيمالكا» سيبقى مفتوحاً وبوابة لتواصل الكُرد العراقيين مع العالم الخارجي، أياً كانت الظروف والضغوط عليهم. كان لذلك التحول الدراماتيكي في علاقة طرفي ذلك المنفذ الحدودي، أن يدفع الكثير من الكُرد لأن يُعيدوا الجُملة التقليدية في التراث القومي الكُردي «ليس للكُردي إلا أخوه الكُردي».

على أن طبيعة الترابط الجُغرافي بين كُردستان العراق وبقية المناطق الكُردية، بالذات مع تُركيا وإيران، تجعل مسألة إجراء حِصار مُحكم أمراً مُستحيلاً. فالحدود بين هذه المناطق الثلاث قائمة على سلاسل جبلية وعرة وقاسية، يصعب للغاية التحكم التام بها، خصوصاً أن الشريط الحدودي يمتد لقرابة ألف كيلومتر، ستمئة منها مع إيران، والبقية مع تركيا.

الأكراد يسمون التهريب «قجق»، وهي عبارة مستمدة من مصطلح تُركي – عثماني. حيث كانت مهنة الـ «قجقجي/ المهرب» من أكثر المهن انتشاراً على طرفي الحدود في تلك المناطق طوال عقودٍ كثيرة، وما زالت الى اليوم، وإن بوتيرة أقل.

كان ثمة عوامل رئيسية ساعدت على نمو هذه المهنة في المناطق الكُردية. أولاً لاختلاف الأنظمة الاقتصادية وطبيعة الموارد، في الدول الثلاث. فالعراق وإيران كانا مثلاً دولتين نفطيتين على الدوام، تُباع فيهما المشتقات النفطية بأسعارٍ زهيدة، بينما كانت هذه المشتقات مرتفعة الثمن في تُركيا، لذا كان تهريب المواد النفطية من إيران والعراق إلى تُركيا مُربحاً للغاية. على العكس تماماً، فإن التبغ كان متوافراً ورخيصاً في تُركيا، بينما كانت السياسات العراقية والإيرانية حمائية تجاه التبغ، لذا كان التبغُ يُهرب من تُركيا إلى الدولتين.

العامل الآخر كان في طبيعة الأنظمة السياسية في البلدان الثلاثة، وتأثير نزاعاتها السياسية في أسواقها الداخلية. فالنظام السياسي الإيراني يمنع استيراد وتجارة المشروبات الكحولية في شكلٍ علني ورسمي، ما يدفع لأن تكون هذه المواد الأكثر تهريباً نحو إيران. العراق كان تعرض لحصارٍ اقتصادي طويل، ما جعله ساحة لتهريب كل المواد إليه، وتركيا كانت أهم الممرات لتهريب المواد المُخدرة من آسيا إلى البلدان الأوروبية.

المناطق الكُردية كانت خارج الهيمنة العسكرية والأمنية العراقية الفعلية على الدوام، مُنذ تأسيس الدولة العراقية، إذ كان ثمة «مُتاركة» بين القوات الأمنية العراقية والمهربين الأكراد في تلك المناطق، وفق ما يصف أحد الباحثين الأكراد. فالحكومات المركزية العراقية لم تكن مستعدة لأن تدفع أثمان مواجهة شبكات المهربين، خصوصاً أنهم لم يكونوا يؤثرون في أمن النِظام العراقي، ولم تكن لديهم أية مطالب سياسية. تطور الأمر ليطاول السُلطات الكُردية التي حكمت بعد عام 1991.

ساهمت البطالة المتفشية وتراجع التعليم وبطء النمو الاقتصادي والاجتماعي في المناطق الكُردية لعقود كثيرة، في تحويل مهنة التهريب إلى مصدر رئيسي لعشرات آلاف العائلات على طرفي الحدود، التي كانت تعاني من المشكلة ذاتها في مناطقها في كُلٍ من تُركيا وإيران.

تراجعت تلك المهنة خلال السنوات العشر الأخيرة، وذلك لحدوث تبدلات جذرية في العوامل التي ساهمت في نمو مهنة «القجقجي». فقد غدت السوق المحلية مفتوحة أمام مختلف أنواع البضائع التي كانت تصل عبر منافذ شرعية قانونية. كذلك نمت المناطق الكُردية تعليماً واقتصاداً، حيث خُلقت آلاف المهن وفرص العمل.

راهناً، يواجه الكُرد العراقيون إمكان العودة إلى تجارة التهريب فيما لو أغلقت المعابر الحدودية القانونية مع كل من تُركيا وإيران. على أن هذه العودة لن تكون يسيرة كما كانت في الماضي، ولن تستطيع أن تُغطي حاجات السُكان المحليين، وذلك لأسباب عدة. طبيعة المواد الضرورية صارت مختلفة تماماً، إذ ثمة الكثير من المستلزمات اليومية دخلت سلة المُشتريات للمواطنين الكُرد في هذه المنطقة، لا تستطيع طرائق التهريب أن تُغطيها بأي شكل. فالإلكترونيات الدقيقة وأجهزة الاتصالات ومواد التجميل ومستلزمات الرفاهية وحاجات المؤسسات التعليمية والأدوية الحساسة يصعب أن تتدفق إلى أي مكان بوتيرة دائمة من دون منافذ شرعية.

الأمر الآخر يتمثل في انهيار الريف الجبلي العامر الذي كان يشغل جانبي الحدود من تلك الجبال. كان القجقجيون/ المُهربون يتحدرون بالأساس من تلك القرى، التي تُشكل لهم ظهيراً لوجيستياً يساعدهم على ترتيب عمليات التهريب. لم يكن المُهربون مجرد أفراد، بل كانوا جزءاً من شبكة اجتماعية/ اقتصادية أكبر حجماً، يساهم كُل فردٍ منها في تلك العملية المُعقدة، بأدوارٍ مُختلفة ومتكاملة.

نقلا عن الحياة

Share Button

عن PDPKS

x

‎قد يُعجبك أيضاً

صدور العدد الجديد 648 من الديمقراطي

صدر العدد الجديد 648 من جريدة الديمقراطي التي يصدرها الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، ...