قبل ربع قرن، كانت سردية شعبية سورية متداولة، تروي حكاية عن حيرة الرئيس السوري السابق حافظ الأسد تجاه الفتوى التي أصدرها الزعيم الإيراني آية الله الخميني ضد الروائي البريطاني من أصل هندي «سلمان رشدي». فحافظ الأسد كان يبتغي دوماً تقارباً مع الغرب، وإظهاراً للتماهي القيمي معه، لكنه في الوقت ذاته كان يخشى الدخول في شقاق مع حليفه الإيراني القوي، الذي كان خارجاً بلا هزيمة لتوه، من حربه الطاحنة ضد العراق. يروى أن الأسد استدعى الشيخ محمد سعيد البوطي، واستشاره في رأيه الفقهي، وأن الأخير أجاب: بأن «سلمان رشدي ليس ضمن ولاية بلادنا، لذا ليس لحاكم بلادنا أي سلطان أو ولاية عليه»، فرفع بذلك الحرج عن هذا الأخير. وحين أجرت مجلة «التايم« الأميركية مقابلة معه بعد ذلك بأيام قليلة، أجاب حين سُئل عن موضوع فتوى الخميني «أنا لست بفقيه ديني، بينما الخميني فقيه ورجل دين».
أركان الحكاية الثلاثة، كانت تخدم صورة حافظ الأسد المبتغاة، فهو الذي يستمع لآراء «العلماء» في ما خص الشؤون الدينية، وتحديداً العلماء السُنة من بينهم، إذ لا ينقاد مباشرة لفتاوى «العلماء» الشيعة. وكذلك هو الذي يميز نفسه لدى الرأي العام الغربي كزعيم «مدني» يحترم حرية التعبير والحريات العامة، وهو متباين عن الزعامة الثيوقراطية للخميني نفسه. وأخيراً كحليف حذر للنظام الإيراني، يخشى المصارحة بالاختلاف العقائدي.
بالمقابل، ليس في الحكاية أي شيء يؤكد بأن الأسد كان بشكل فعلي ومباشر مع حق رشدي وحريته في التعبير، مع أن كل تحركاته وتصريحاته كانت تبتغي الإيحاء بذلك.
استطاع الأسد أن يصنع لنفسه تمايزاً عن حليفه الإيراني، ويظهر كمدافع عن حرية التعبير، في الوقت عينه الذي كانت أقبية السجون السورية متخمة بعشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين، حيث استشهد الكثير منهم تحت آلة التعذيب الرهيبة طوال الثمانينات، ومن دون أن توجه أي تهمة جنائية لأي منهم. وما كانوا إلا ضحايا آرائهم السياسية والعقائدية وربما الدينية. وفي الوقت الذي كانت سوريا كلها تمر بأفظع سنوات تطبيق قانون الطوارئ، إذ لا حريات عامة أو مدنية أو إعلامية أو حرية تعبير. على خطى الأسد وقتئذ، سار الكثير من الأنظمة السياسية الاستبدادية الستالينية؛ من بينها تحديداً تلك التي تحكم مجتمعات محافظة.
بعد أكثر من ربع قرن، يبدو أن تركيبة ثلاثية، ثقافية وسياسية وأهلية، شبيهة تماماً بتلك التي كانت تتحدد في نسق طيف من المتضامنين مع شهداء مجزرة مجلة «شارلي أيبدو» الفرنسية. تركيبة تظهر تضامناً مع الضحايا وحرية التعبير، لكنها في الوقت ذاته تبدو زائفة ومدعية ورثة بمقارنة بسيطة بسلوكيات ومواقف نظيرتها حيال حركة الربيع العربي، وبالذات منها في قاطرتها السورية؛ إذ يقفون هناك على النقيض تماما من منصة ضحايا حرية التعبير. بل ثمة منهم من هو مستعد ليقوم بفعل المجرمين الذين اعتدوا على صحافيي «شارلي أيبدو» أنفسهم، فيما لو مارس خصومهم السياسيون أو حتى الثقافيون أو المدنيون، الحرية الذاتية الخاصة التي مارسها صحافيو/شهداء المجلة الفرنسية.
ثقافياً، يبدو جلياً أن تيار «المعضلة في الشعوب وليس في الأنظمة» هو على رأس هؤلاء المتضامنين المزيفين. لأنه في الوقت الذي يتضامنون فيه، إنما يذهبون للقول للمؤسسات الثقافية والسياسية الغربية، بمعنى ما «أوليس هؤلاء هم من دافعتم عن حقهم بالتعبير وممارسة الحرية، أوليسوا هم من الشعب وليس من بنية الأنظمة العاقلة الراشدة المنضبطة المتصالحة مع قيم الغرب؟« هذه الفئة من المثقفين، التي ما انفكت تحذر من حرية التعبير، وأن هذا الحق يجب ان يكون حكراً على طيف ونٌخبة وصفوة من المجتمع، وأن هذه الحرية لا تناسب العوام، وأن منح العامة مستوى عالياً من الحرية، إنما يحولها إلى سيل خطر على هذه الصفوة والنُخبة وعلى قيم الحياة والثقافة، التي يرون أنفسهم فحسب مشتركين بها مع الضحايا الغربيين.
على أن ما يفوق رثاثة هذا الطيف الثقافي في تضامنه مع شهداء المجلة الفرنسية، هو تضامن «النُخب» السياسية الموالية للأنظمة الاستبدادية الراهنة، من بينهم بالتحديد من يدورون في فُلك النظام السوري وسياساته وممارساته في الدفاع عن الحريات كلها، منذ خلع أظفار أطفال حوران وحتى استخدام الأسلحة الكيماوية ضد أطفال الغوطة. هؤلاء ومعهم الكثير من التيارات السياسية و«العصاباتية«، التي ما انفكت تصطنع «أنبياء» سياسيين ملهمين جدداً في ظلال الحدث السوري. «أنبياء» على العامة حيث التسبيح باسمهم، أو مواجهة العنف الأرعن.
هؤلاء الذين من المستحيل أن يقبلوا بأي سخرية من أصنامهم العسكرية أو السياسية أو الإيديولوجية التي اصطنعوها، لا يجدون غضاضة في الإعلان عن تضامنهم مع شهداء المجلة الفرنسية، وهذا ليس من باب التواؤم مع الحرية كقيمة بذاتها، بل فقط من باب التماهي مع الغرب القوي، والإيحاء بمواجهة «الوحش» نفسه.
مدنياً، يصدر هذا التضامن الرث عن كثير من الجماعات الأهلية الطائفية والمذهبية والعرقية والجهوية، يصدر كتضامن مع «عدو» مشترك يجمعها مع المعتدى عليه، الغرب. هذا العدو الذي يتمثل في مخيلتهم ب»العربي المسلم السُني المحافظ». تضامن هذه الفئة بالذات منحط، لأنه بالذات موجه ضد تشكيل اجتماعي ثقافي بعينه، ولأنه متخم بالعدوانية وأبعد ما يكون عن الضمير المدافع عن حرية الرأي؛ حرية الضمير التي لا يمكن أن ترى الجريمة النكراء إلا بتعيّنها الفردي الشخصي، وبحالتها الموضوعية المباشرة، ولا يمكنها أن ترى لها أية إحالات يمكن عبرها توجيه الاتهام لجماعة أو تشكيل أهلي بعينه. وهو الأمر الذي كان قد فعله ضحايا المجلة أنفسهم من قبل، فلم تكن سخريتهم موجهة ضد دين أو عقيدة أو جماعة بعينها، بل ضد كل ما كانوا يعتقدونه مثيراً وجذاباً للتداول العام، أياً كانت مرجعيته أو بنيته الأهلية الثقافية والعرقية والدينية.
في ديوانه الشهير «دُكان التبغ» يقص الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا تفاصيل حياة ثلاث شخصيات، حارس القطيع والمؤمن الرومانسي والعدمي المنفصم، وكيف إنه في شخصية كل منهم ثمة التباس وشيء خفي من شخصيتي الفردين الآخرين، لا لأن ذلك جزء تكويني مركزي فيهم، بل لأن كل واحد من هؤلاء يستشعر الحاجة لشيء من شخصية الآخرين.
شيء كثير من ذلك يحدث في عوالم هذا الطيف الرث من المتضامنين مع «شهداء« المجلة الفرنسية، إذ يبتغون أي خيط يربطهم مع حرية الضمير والقيم الإنسانية العليا، لكن دوماً يظهرون كبخلاء وجبناء، لا يستطيعون التخلي عن شيء من فداحة ما هم منغمسون فيه فعلياً، من تناقض عميق مع حرية الضمير والقيم الإنسانية العليا هذه.
نقلا عن نوافذ المستقبل