ظهر في الأسابيع الماضية، سياقان سياسيان مُتباينان تماماً في ما خص الحياة السياسية في تُركيا. الأول، إقليمي «توسعي» عابر لـ «الكيانات الوطنية» في المنطقة، حيث اتُّخذت الخطوات الإجرائية شبه النهائية لإتمام بناء القاعدة العسكرية التُركية في قطر، كأول حضور عسكري تُركي رسمي في الشرق الأوسط منذ الانسحاب العسكري منه قبل قرن بالضبط. ترافق ذلك مع زخم عسكري تُركي للانخراط في المسألة العراقية المُعقدة، ومدّ المُدربين العسكريين الأتراك في معسكر «بعشيقة» بعشرات الدبابات والآليات الثقيلة ومئات الجنود. وذلك حدث على رُغم الرفض المُعلن من الحكومة العراقية، التي وصلت بها الحال الى تقديم شكوى لمجلس الأمن.
لم يكن ذلك بعيداً من تفاصيل التفاوض غير المُعلن بين تُركيا وإسرائيل، لإعادة تفعيل علاقاتهما، فيما يُشكل الرفض المصري لتقبّل إسرائيل نفوذاً تركياً ما في قطاع غزة أهم عائق أمام إتمام صفقة التصالح.
مجموع ذلك يعني أن تُركيا تبحث لنفسها عن مناطق نفوذ مباشرة عبر قوتها العسكرية، في سلوك شبيه بما تفعله إيران منذ عقود كثيرة، عبر تأسيس ميليشيات طائفية مُسلّحة موالية لها في الدول الإقليمية وتغذيتها.
السياق الآخر كان داخلياً تماماً، فمنذ تحقيق الحزب الحاكم نتائج نوعية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، بات يتصرّف كسُلطة مُطلقة الصلاحيات في شتى الملفات العالقة بينه وبين خصومه.
فمن جهة، بات واضحاً أن خيار السلطة هو حسم مسيرة التصالح مع الحركة القومية الكُردية عبر التحطيم العسكري الكامل لها، ولو بمُحاصرة الأحياء والبلدات والمُدن الكُردية عشرات الأيام، وقصفها بشتى أنواع الأسلحة، ومنع المدنيين، بمن فيهم الجرحى، من مغادرتها. ويُقدّر أن أعداد المُهجرين بسبب هذا العنف بلغت قُرابة نصف مليون مُهجر، مع انهيار شامل لشبكات الخدمات العامة والبُنية التحتية لهذه المُدن المُحاصرة.
من جهة أخرى، فالسُلطة التُركية تتصرف كأنها مُطلقة اليد في مُخاصمة تيار الداعية فتح الله غولن، سياسياً واقتصادياً وأمنياً وقانونياً، مُستخدمة كُل الأدوات والسُلطات المتاحة لها من دون قيد دستوري أو عُرفي يحدّها. وما يصح على جماعة غولن الدينية/ السياسية يصحّ على خصومها الإعلاميين والاقتصاديين والأيديولوجيين.
صحيح أن هذا التشابه بين حال السُلطة التُركية الحاكمة ونظيرتها الإيرانية لا يعني التطابق الموضوعي والقياسي الكامل. لكن ما بقي من فوارق واضحة لا يعني في أي شكل أنه سيبقى على ما هو عليه راهناً.
فأيضاً، النظام الإيراني كان ذا سُلطات نسبية ودستورية في السنوات الأولى بعد انهيار نظام الشاه العام 1979. لكن بالتقادم ومع تعزيز المركزية وتحطيم خصومه، تنامت قُدراته العسكرية وحُطِّمت طبقة الجنرالات الموالية للشاه لمصلحة طبقة جدية من العسكر الموالين لرجال الدين. الأمر نفسه انطبق على المسألة الاقتصادية، حيث تآكلت طبقة أعيان البازار التقليديين، وخُلقت طبقة الموالين الاقتصاديين للنظام، وبالذات منهم أبناء الجيلين الثاني والثالث من أبناء رجال الدين في مدينة قُم، وصولاً إلى ما انتهت إليه إيران اليوم.
صحيح أيضاً، أن تُركيا، مُجتمعاً ودولة، تملك بواعث حماية داخلية شديدة الخصوصية، كقوة الطبقة الوسطى وحداثة النظام السياسي والتعليمي والتنوع الهوياتي والولاء الأيديولوجي للنُخبة العسكرية، لكن ذلك كله لا يُشكل مناعة كافية حيال تحطيم السُلطة له، عبر تصعيد طبقات اقتصادية وسياسية وعسكرية شديدة الولاء ومعقدة الارتباط بها، وعبر إغراق تُركيا بسلسلة أزمات (شبه مُصطنعة) تُحرّك كُلما أحست الطبقة الحاكمة باهتزاز التوازن السياسي الراهن، تماماً كما فعلت في الفترة الفاصلة بين الجولتين الانتخابيتين الأخيرتين.
فهذا السلوك يحفظ لها على الدوام ولاء الطبقات الاجتماعية الأكثر قلقاً من انهيار السلام العام. وهو كان السلوك نفسه الذي استخدمته الطبقة السلطوية الإيرانية الحاكمة طوال الثمانينات.
… في الدراسات التاريخية حول الإمبراطورية العثمانية، يذهب المؤرخون إلى أن السلاطين العثمانيين الذين كانوا يشنون حملات ضخمة على الإمبراطورية الفارسية، في العراق الراهن وشمال غربي إيران، كانوا يعودون وقد تلبسوا «روح الحياة الفارسية» نتيجة ما لاقوه في رحلاتهم العسكرية تلك: فالثقافة والحياة العامة الفارسيتان كانتا تغلبان نظيرتيهما العُثمانيتين حينذاك.
ويبدو أن شيئاً شبيهاً بات يخالط التفاعل التُركي – الإيراني في السنوات الأخيرة، مع فارق أن الروح الفارسية الجديدة يُمثلها الجنرال قاسم سليماني.
عن الحياة