في عصر ذلك اليوم من شهر اغسطس لعام 2009، كانت السيارة الصغيرة تتحرك بنا نحو الشمال الشرقي من حلب. كانت الوجهة “عين العرب”، التي عاد الكرد اليوم يطلقون عليها “كوباني”. وأصبحت في قلب الاحداث في الأيام الاخيرة. لم أكن اعرف رفيقي الكرديين اللذين اصبحا صديقين قبل أيام قليلة. فقد جئت لدمشق لاجتماع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.. إلا ان صديقا مشتركا عرفني بهما، عندما ادرك اهتمامي بمعرفة المزيد عن أكراد سورية.. وقد دعاني لزيارة حلب وما جاورها.
استقبلوني في حلب كأنهم يستقبلون صديقا قديما. ولم يتركوا لي مجالا لاختيار سكني فأصروا على استضافتي أيام اقامتي هناك.. ولم أجد فيهم سوى ملامح الانسان الذي لم يكن يريد أكثر من الاعتراف بهويته الخاصة، التي لم يكتشفها فجأة ولكنه عاود اكتشافها بعد صعود القوميات في المنطقة وتجربة حزب البعث في جناحه الشوفيني القومي.
ها نحن نصل الى الجسر الذي يقطع نهر الفرات نحو الشمال الشرقي، وفي جزيرة صغيرة وسط الفرات يرفرف العلم التركي على مبنى حوله بعض الحراسات التركية. كان مرقد سليمان شاه جد مؤسس الدولة العثمانية عثمان الأول. ولم تكن القرى التي كنا نشاهدها عن بعد كردية خالصة، لقد امتزجت بالقرى التي يسكنها العرب.. وإن كانت القرى الكردية تتوزع بكثافة كلما اقتربنا من عين العرب. وكان عمر وعلي ابنَي مختار قرية عين العرب في زمن مضى.. لم يختر والدهما لهما ولإخوتهما سوى اسماء عربية عمر وعلي واسماعيل وصالح.. إلا انهم اختاروا لأبنائهم اسماء كردية لاوند وتشفين وغيرها من اسماء الكرد الشائعة.
لم يكن المختار وأجداده من قبله يشعرون بالحاجة لتأكيد هويتهم الصغرى في عين العرب او حلب، وكان المزيج العربي الكردي في تلك المناطق لا تثيره توجهات حزب قومي هنا او هناك.. ولم تظهر تلك النزعة لتأكيد الهوية الكردية على النحو الذي ساد في المنطقة إلا مع علو سهم القوميات.. الذي فشل في اكتشاف المشتركات الكبرى، وتجفيف مصادر غلواء القومية الكردية التي عرفت علوا منذ الحرب العالمية الاولى على نحو مازالت آثاره ماثلة في العراق وسورية وتركيا. وقد اتخذت عين العرب هذا الاسم، لأنها كانت عينا يسقي منها العرب ماشيتهم وابلهم منذ عهد بعيد. استيطان الكرد هذه المنطقة ليس بعيدا عن امتداد مناطقهم في الاراضي التركية المجاورة لعين العرب.
عند العشية وصلنا عين العرب.. كانت أكبر من بلدة وأقل من مدينة لكنها مدينة رثة، بيوتها متواضعة.. كان من الواضح انها تفتقر للعناية والاهتمام من الحكومة المركزية في دمشق. وفي نهاية احد احيائها تظهر بوابة كبيرة مغلقة.. كانت احدى بوابات العبور للجهة الاخرى من الحدود التركية.. وأعتقد انها المنفذ الذي عبر منه هذه الايام أكثر من ستين الف كردي للأراضي التركية هربا من الحرب المستعرة بين تنظيم الدولة “داعش” والمليشيات الكردية.
رغب الاخ الأكبر عمر في زيارة ابنته المتزوجة والمقيمة في هذه البلدة. لفت انتباهي الحديث داخل بيوت الكرد، حيث تغيب العربية تماما وتستبدل باللغة الكردية. كان الصبي الصغير يتحدث بالكردية ولا يكاد ينطق كلمة عربية سوى خارج المنزل. وجدت انهم اشد الناس حرصا على تلقين ابنائهم لغتهم منذ نعومة اظفارهم في منازلهم. بينما يذهب أبناؤهم إلى المدراس حيث يتعلمون مثل بقية التلاميذ بالعربية حيث لا مكان لأية لغة اخرى في التعليم العام. لم يكن يضايقني بين هذين الشقيقين سوى عندما يأخذان بالحديث بالكردية، وكأنهما لا يريدان ان افهم ما يقولان.. أو كأنهما يصران على ان هويتهم حاضرة في كل وقت.
لم أر في هذه البلدة او المدينة الصغيرة جمالا يذكر.. كانت الصحراء تلفها من جميع الجهات.. وكل المناطق المحيطة بها يتم زراعتها في مواسم الامطار وخاصة القمح.. ولم تكن رحلتنا لتقف عند عين العرب.. فقد كان المقصد قريتهما (كل تبا) وهي تعني بالعربية اكليل التل.. وكان علينا ان نجهد في هذا الليل البهيم في طرق ترابية وغير معبدة عشرات الكيلومترات حتى نصل إليها.. حيث كان في انتظارنا اخوهما اسماعيل المزارع النشط، الذي يزرع الفستق والزيتون.
كانت القرية صدمة، فلم تكن تحمل حتى اسم قرية.. انها مجرد اكواخ من الطين وبناء قليل لبعض الدور بالطريقة المعروفة.. فلا شوارع ولا أزقة، وإنما اكواخ وغرف متناثرة هنا وهناك. ولم يكن سكانها سوى مجموعة من الاقارب مهما بعدت المسافة بينهم.. ولم يكن اسلوب معيشتهم إلا نسخة من حياة بادية الصحراء، ولم يكن هناك أي ملامح يمكن أن تفرقهم عن عرب الصحراء في تلك المنطقة.
ولأول مرة منذ ثلاثين عاما أنام في الخلاء بجوار المنزل، وفي ساعة الفجر سمعت صوت المؤذن، كان صوتا رخيما جميلا.. إلا أنه لم يكن يصدر عن (كل تبا) بل عن مسجد القرية التركية المجاورة التي لا يفصلنا عنها سوى سياج يبعد اقل من 1000 متر. كنت أراها عن بعد أكثر جمالا واتساقا وازدهارا.. إلا ان الاقتراب منها كان محفوفا بالمخاطر لان ثمة ألغاما زرعها الاتراك على حدود السياج لمنع تسلل اعضاء حزب العمال الكردي الذي نشط في هذه المنطقة.. قبل أن تتخلص منه سورية حافظ الاسد ليقع زعيمه فيما بعد في قبضة الحكومة التركية.. استعيد هذه الصور وأكثر.. لقرى محافظة جدا، لا تكاد ترى فيها المرأة خارج المنزل ولا تختلط بالأجانب، ولا تكاد ترى في عاداتهم او لباسهم او طعامهم شيئا مختلفا عن جيرانهم العرب في القرى المجاورة. استعيد كل هذا وأنا اتابع هذه الايام سيطرة داعش على تلك القرى، وذلك الهروب الواسع منها إلى الاراضي التركية.
الشعب الكردي من أقرب الشعوب للعرب، لا يمكن للكرد ان يقيموا دينهم دون فهم للعربية، ولا يمكن ان يعيشوا سوى في جوار العرب وبينهم كما عاشوا الاف السنين.. لا توجد احن او تاريخ مظلم بين الكرد والعرب.. بل تمازج وانصهار.. ولن تعود الاحزاب التي حرمتهم من حقوقهم.. وهي ان كانت أساءت للأكراد فقد اساءت لمواطنيها دون تمييز في سبيل استتباب الوضع لها واستقرار الحكم أخيرا لطائفتها.. إلا ان ثمة احزابا سياسية كردية أخذت موقفا سلبيا من العرب، ومازالت تعمل في اتجاه لا يمُكِّن لنوع من الثقة بين جيران لا يمكن فصم عرى العلاقة بينهم، وهي علاقة هوية جامعة تجسدت تاريخيا في أبلغ وأعمق صورها.
ماذا تريد “داعش” من السيطرة على القرى الكردية في هذه المنطقة؟ يبدو ان داعش تتحرك عبر استراتيجية السيطرة على المناطق الرخوة. وخاصة تلك التي تضمن لها حماية ظهرها عبر السيطرة على الشريط الحدودي الطويل مع تركيا، بالإضافة الى حماية خطوط امداداتها السرية. ولا يظهر ان الحكومة التركية منزعجة كثيرا من هذه التطورات، فمصائب قوم عند قوم فوائد.. فهو يضمن ايضا السيطرة وربما انهاء الحلم الكردي ببناء كيان كردي في شمال سورية وعلى الحدود التركية التي يهيمن على سكانها العنصر الكردي.. فمازالت الاحداث تتفاعل والصراع على أشده والاجندات الخفية أكثر من تلك التي يمكن قراءتها بسهولة. لقد استعادتني تلك الاحداث لذلك اليوم، فلم أر في تلك المناطق حينها سوى ملامح الانهاك والحياة الكفاف.. واليوم تظهر صور اللاجئين الاكراد وهم يهربون من قراهم البائسة لعالم المجهول.