لقد اثار تنحي أمير قطر الشيح حمد بن خليفة آل ثاني قبل أكثر من سنة، الاهتمام وشكلت مفاجآة من حيث التوقيت. من جهة الاهتمام بتنحيته، فقد بات الأمير الأب منسيا تماما بعد انتهاء كرنفال تنصيب ولده الشيخ تميم. انسحب الأمير الطموح بهدوء الى الظل. أما من حيث مفاجأة الحدث، فقد سبق وتنبأ عدد من المهتمين بقرب نهاية زعامته، وتوقع البعض الاخر ان يتم اغتياله جسديا وليس سياسيا فقط. فالحدث لم يكن نتيجة لمعادلات داخل العائلة الحاكمة، والصراع على كرسي الإمارة، فالحصص والنفوذ موزعة والخيرات تكفي الجميع، ولم تكن بسبب نفوذ وترتيبات زوجته الثالثة الأميرة موزة آل مسند. ولكن وعلى الأرجح نتيجة لسرقة دولة قطر الأضواء السياسية منذ اكثر من عشر سنوات من الدول العربية الكبيرة والرائدة تاريخيا، كمصر والمملكة السعودية على سبيل المثال. ان طموحات الأمير الكبيرة دفعته ليلعب بالعديد من الأوراق، ساعيا لدور ريادي، بل استراتيجي وقيادي في العالمين العربي والاسلامي، دون ان يتنبه لا هو ولا مستشاريه بأن هذا الدور الطموح لايتوافق مع موقع قطر كدولة صغيرة وناشئة بكل المعايير.
هذا وقد دخل دور وفعالية قطر مرحلة مفصلية خطيرة عندما تعاظمت الاحتجاجات الشعبية، وتشكل مناخ ثوري شعبي وشبابي في عدد من الدول العربية، هيأت الأرضية لتغير الأنظمة الاستبدادية القائمة فيها. واثر زيادة فعالية هذه الانتفاضات، وبشكل خاص بعد سقوط زين العابدين بن علي، اختل توازن بعض حكام قطر، اذ عاشوا حالة من النشوة السياسية، معتقدين ومؤمنين بأن لإعلام قطر عموما ولشبكة الجزيرة خصوصا، دور رئيس في سير وتصاعد هذه الانتفاضات، وبالتالي التعجيل بسقوط بن علي. وكنتيجة لذلك تصرف الحكم القطري بكثير من الطيش والغرور في خطوات لاحقة، تجسدت بعد سقوط أنظمة الحكم في كل من مصر وليبيا، بالتدخل المباشر في الشأن الداخلي للبلدين، بما فيه تشكيل الحكومات. لقد سلط أمير قطر السابق كل طاقة اعلامه على الانتفاضة السورية، لدرجة أنه هنالك من يؤكد بأن الأمير المنسي كان يشرف على اعداد بعض النشرات الاخبارية الخاصة بسورية في قناة الجزيرة. وتصور الأمير ان مشاريع تغيير أغلب أنظمة الحكم العربية تسير بشكل سريع، مما تشجع في توسيع وتعميق مشاريعه السياسية، الى أن تجاوزت حدود فعاليته الاقليمية، محاولا تسلم ملفات كبرى، والتدخل في صلب مسائل استراتيجية عالمية. فحاول القيام بدور الوسيط بين طالبان وحكومة كرازاي ، اضافة الى الملف الفلسطين عبر بوابة غزة. ترافقت هذه السلوكية مع انخفاض منسوب العمل الدبلوماسي وأداءه، ترجم ذلك في اكثر من موقف. فعلى سبيل المثال، قامت الدبلوماسية القطرية بتسريب معلومات لشخصيات معارضة سورية: “بأن قطر قادرة على شراء الموقف الروسي بعدة ملايين من الدولارات”. ما انعكس على الموقف الروسي بطريقة الرد العنيف الذي جاء من ممثلها في الأمم المتحدة، وعبر عنه، بما معناه: “اذا لم تلتزم قطر حدودها فيمكن لنا ازالتها من خارطة العالم”.
كانت هذه المناوشات على شكل اختبار لتوازنات القوى، وتاكيد للكشف عن سوية وقدرة المال النفطي المعاصر في رسم السياسات العالمية، وصناعة القرارات المصيرية، وبالتالي تحديد مستقبل شعوب المنطقة، التأثير على خياراتها.
جاء تنحي الأمير في توقيت مريب وكثمرة ضائعة، بحيث لم يوظف لصالح أي تحول سياسي في الداخل القطري، ولا كجزء من أي صفقة أو تفاهم اقليمي ضيق في المحيط العربي الاسلامي الأوسع. فكم كان جميلا من الأمير ان يضحي بكرسيه في سبيل الثورات العربية، التي كان يعتقد ويتوهم بانه قائدها وملهمها. فكان يمكن له أن يسجل انبل موقف لو اقترح قبل سنة فقط من تنحيه، ودعى حينها: “الى تنحي جماعي لمجموعة من الرؤساء العرب الذين حكموا بلادهم اكثر من عشر سنوات”. أو لو اقترح وساوم لاحقا على تنحي مشترك ومتوازي مع الرئيس السوري. لكان قد ساهم عمليا في انقاذ العديد من الأرواح.
ولكن وعلى الأرجح ما حدث هو ان الأمير قد ارهق تحت ثقل طموحاته ومشاريعه السياسية الكبرى، وبذلك حمل بلد صغير لايتجاوز سكانه مائتي الف شخص – باستثناء حوالي مليوني ضيف ومقيم – ما لا طاقة له به. وزج اركان حكمه وربما العائلة الحاكمة برمتها في صراعات اقليمية ودولية خطيرة ومركبة، جعل من قطر طرفا في صراعات لن تنتهي مفاعيلها لسنوات وعقود.
لذلك جاءت عملية التنحي تجنبا لمخاطر هذه الصراعات، ومخرجا من كثير من القضايا الشائكة، اضافة الى دلالات نظرية أخرى متعددة السياقات. فقد أكدت عملية التنحي لكل دارسي الحقل السياسي وعلم الاجتماع، بأن الجغرافيا السياسية مازالت تفعل فعلها الرئيس على الساحتين الإقليمية والدولية، وفي الوقت نفسه لايمكن اهمال ما اصطلح على تسميته ب”الجيوبوليتك التاريخي”، وهو ما يعيد الاعتبار والاحترام لدور الدول والممالك في التاريخ المعاصر والقديم، نظرا لمكانتها الروحية والثقافية، وثقلها النوعي وان كانت فقيرة اليوم، أو لاتمتلك قوة اقتصادية وعسكرية كبرى. هذا ويدل النسيان السريع للأمير النشط، بانه لايمكن فقط لشبكة اعلامية فعالة ان تغيير الأنظمة والخرائط، كما لا يمكن لها ان تصنع أو تخلد قادة تاريخيين.
لايختلف اثنان بأن قطر بقيادة أميرها السابق كانت دويلة اشكالية بكل ما في المصطلح من معان. وعلى ما يبدو ان نهاية هذا الاشكال جاء بطي صفحة مرحلة، مرحلة كانت اشكالية ومضطربة في معالمها الرئيسة.
ويبدو اليوم بعد مرور أكثر من سنة على نسيان الأمير، ان نهاية المرحلة السابقة هي بشكل من الأشكال نهاية لفعالية دور قطر السياسي وجنوحها السياسي، لكن محطة ومنعطف التنحي لم يمهد لاعادة تأهيل قطر تحت حكم الأمير الشاب تميم، وكذلك لم يفسح لجم سياسة قطر النسبية المجال لبروز أدوار جديدة لدول منافسة ومؤهلة، اذا تجاهلنا عودة الروح الى السياسات الأقليمية المصرية، التي بدت مهزوزة وفجة منذ التصريحات الأولى للرئيس سيسي ذات الثقافة العسكرية. كان من المتوقع ان تترافق مع الحكم القطري الجديد مساع دولية، او ما تحت دولية لضبط دور قطر المالي والتمويلي أيضا، لأن امكانياتها المالية الضخمة هي اس سياساتها، هذه السياسات التي تصب غالبا لصالح مشاريع ايديولوجية فجة، وبصرف النظر عن نجاح هذه المشاريع أو فشلها، فانها تخل من حيث المبدأ بموازين وتوافقات القوى الاقليمية والعالمية، وقد تمهد لاضطرابات اقليمية طويلة الأمد.
وفي هذا السياق لابد من التذكير بان أخطر وظيفة للمرحوم القذافي وأكثرها ازعاجا للغرب كانت تكمن في تدفق أمواله عبر قنوات سياسية وأمنية متنوعة، لتصل غالبا الى جماعات هي طرف في نزعات اقليمية ودولية ساخنة، أو صانعة للقرار السياسي في قلب اوربا وامريكا. ومن حيث لاندري ربما كان اغتيال القذافي مقدمة لتنحي امير قطر، وبالتالي كانا ضحية لبدء سياسة عالمية مفترضة، تتلخص في وضع المال السياسي تحت رقابة القوى العظمى، ودرئ المخاطر الحقيقية الناتجة عن فوضى تدفقها على أحزاب وتنظيمات تعمل وفق اجندات اجتماعية شديدة الراديكالية، بقدر خدمتها أهداف ومنظومات ايديولوجية متشددة.
ان السياسات التي ادت الى ان يعيش أمير قطر وحيدا منسيا منذ أكثر عام، ولم يتنبه كل مستشاري الحكم الأميري الى راديكاليتها، هي نفسها قد تقود دولة قطر مستقبلا الى النسيان والحصار، وربما يتهيأ المناخ لفرض الوصاية الدولية عليها، او مراقبة اوجه صرف وارداتها المالية على أقل تقدير. فدولة قطر مازلت تحتضن عدد كبير من العقول الراديكالية “العروبية”، اضافة الى جيش حقيقي من الدعاة والمتطرفين الاسلاميين، والعديد من المخططين الاقتصاديين الخياليين.
نقلا عم موقع روداو.