لمعتْ، في سورية التي طَوَّبها حافظُ الأسد على اسمه، وأطلق عليها اسم “سورية الأسد”، شخصياتٌ من “عظام رَقَبة” نظامه. كبرتْ هذه الشخصيات، حتى لم تعد جلودُها تتسع لأجسادها، فانفجرت، أو احترقت، أو ذابت كفصوص الملح. وكان هذا يحدثُ ضمن ترتيبات وتركيبات غامضة، تتطلب وقتاً طويلاً حتى يفهمها الإنسانُ على حقيقتها. في أوائل السبعينات؛ كان يُدرسنا، في كلية العلوم الاقتصادية في جامعة حلب، دكتور يُدعى سليم ياسين. وفي سنة 1987 قرر الأسد؛ باعتباره قائداً يقدر المواهب العلمية والأكاديمية حقَّ قدرها، استدعاءَهُ إلى دمشق، ليعهد إليه بمنصب نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية. وكان سليم ياسين على قدر هذه المسؤولية العظيمة، فأخذ يركزُ تصريحاته الصحفيةَ على ضرورة بناء اقتصاد متين، يساعد على تطبيق شعارَيْ التوازن الاستراتيجي مع العدو الإسرائيلي، والصمود والتصدي اللذين تفتقت عنهما حكمةُ القائد، وعلى رفع السوية المعاشية للطبقات الكادحة التي يخصها القائدُ الحنون بعطف خاص! ويشرح الدكتور ياسين للسوريين، بعد مؤتمر مدريد، أن عملية السلام لن تؤثر سلباً على اقتصادنا، وإنما إيجاباً وأن الخصخصة (لا) تعني التراجع عن النهج الاشتراكي.. قالها وهو خيرُ مَنْ يعلم أن الخصخصة تعني التراجعَ عن النهج الاشتراكي. كان حافظ الأسد يُكثر، في خطاباته، من الحديث عن التضحية. ولم يكن يقول ذلك من أجل الدعاية، أو البلاغة، بل إنه كان يضحي، يومياً، بعدد من السوريين في لبنان، أو في السجون والمعتقلات. وحينما يمر نظامُه بمنعطفات خطيرة، كان يضطر للتضحية بشخصيات كبيرة، مثل اللواء علي حيدر الذي بدأ به يوم قرر تأهيل ابنه باسل لرئاسة سورية، ومحمود الكردي مدير الإنشاءات العسكرية الذي جعله يتخ في السجن، واللواء غازي كنعان الذي قل ولاؤه لعائلة الأسد، وشرع يشتغل لحسابه الشخصي فكان مصيره الانتحار! ثم الثلاثي محمود الزعبي وسليم ياسين ومفيد عبد الكريم الذين ضحى بهم، عشية نقل السلطة إلى وريثه بشار. أقام حافظ الأسد نظامه على الفساد، فحينما سئل، في الأيام الأولى لتنفيذه انقلاب الحركة التصحيحية، عن خطته لحكم سورية، قال: هناك من يريد أموالاً أو مناصب، سوف نعطيه ما يريد. وهناك من يعارض سيكون مصيره السجن (أو الموت). ولكن هذا المبدأ الصريح لم يكن يُطَبَّقُ بالصراحة نفسها. فلأجل ترسيخ الفساد كان إعلام النظام السوري يركز على شعار (مكافحة الفساد). ولعله من الطريف هنا تذكيركم بأن لجنة التقصي عن الكسب غير المشروع التي أسسها حافظ الأسد سنة 1977 قد أمر، هو نفسه، بإيقاف عملها، حينما جاءته الأخبار أن الفاسدين الحقيقيين في سورية هم عائلتُه وضباطُه وجماعتُه وبطانتُه وحاشيتُه ومَحَاسيبُه الذين أعطاهم ما يريدون، بموجب تصريحه السابق، مقابل ولائهم له. ضمن سياق التضحية هذا؛ أقيل الدكتور سليم ياسين، وأحيل إلى محكمة الأمن الاقتصادي، بتهمة قبض عمولة من شركة أير باص الفرنسية عن طريق المدعو منير أبو خضور، تنفيذاً لصفقة أنجزت عام 1996، لمصلحة وزارة النقل. ولعل أكثر الشخصيات السورية طرافة المقدم خليل بهلول الذي عهد إليه حافظ الأسد بإدارة مؤسسة، غريبة من نوعها، تحمل اسم “الإسكان العسكري”. لم تكن هذه المؤسسة تخضع للقوانين والأنظمة التي تحكم المؤسسات، ذات الطابع الاقتصادي في سورية، وكان خليل بهلول هو الحاكم بأمره فيها. ومن فرط تُقَاه وورعه، عَمَّمَ البهلول على فروع المؤسسة التي انتشرت في المناطق المدنية أمراً ينص على أن تكتب الآية الكريمة (وقل اعملوا، فسيرى الله عملَكم ورسولُه والمؤمنون) في كل زاوية من زوايا المؤسسة. ولعل من الأعمال التي اعتقد البهلول أنها ترضي الله ورسوله والمؤمنين إهداء “فيلا” فخمة لكل محافظ وأمين فرع ووزير، حينما كان سوريون كثيرون يعيشون في بيوت تشبه الأكواخ.