حليم يوسف: أبطالُ الخساراتِ… عن رحيل فرهاد جلبي

Share Button

قالوا عن القضية الكردية أنها من القضايا الخاسرة، ووجدنا أنفسنا أننا أبناؤها، وكانت الكتابة بلغةٍ “ممنوعةٍ من التداول” خسارةٌ كبرى لنا، وهرعنا إليها، مذعورين من احتراقات أرواحنا في 10628533_616319531816467_7877029917838483566_nعراء الحزن. وجاءت الخسارة نفسها، لتبعدنا عنها، فرفضنا وبقينا أسرى سحرها حتى الموت؛ كانت الكتابة تديمها، تجمّلها، فنذوب فيها وتذوب فينا إلى أن نفني.
الكتابة… كانت عمل من لا عمل لهم.
ينشغل بها المجانينُ والمعتوهون، ومن على شاكلتهم، ينظر المطمئنون إلى حاملي هذه الأقلام العتيقة، على أنهم مارقون وثلةٌ من الشواذ، ومن ناكري الجميل ومثيري الشغب.
لا يهمهم من الدنيا سوى الموبقات وهتك أعراض الناس.
الكتابة… كانت دائماً سبباً للرجم بحجارتهم.
ووجدنا أنفسنا نحمل أعلامها المكسورة أينما حلّ بنا الترحال؛ بحضور الكتابة يحضر الفقر المدقع، فتفرّ أرواح النساء التواقة للذهب، تستنفر العائلات المحترمة، وتشحذ العشائر أسلحتها وتعلن الحرب ضد سَدَنة “النقد التخريبي” كما يقولون، ويظل ابن الكتابة وحيداً مع حزنه، معتصماً بيأسه كفأرٍ حاصرته أسنان القطط.
هكذا كنا دائماً، وهكذا كانت الكتابة “الكردية”.
وحين يأتي الموت، موت كاتبٍ أو شاعرأو… وبهذه القسوة المبكرة، يأخذ وقع صهيل الحزن على الأذن شكلاً آخر. رحل فرهاد، وهو محاطٌ بانتظار أبنائه الثلاثة، وبحزن الشعر، وبكمٍ هائلٍ من المجلات الممنوعة ومن القصائد والقصص التي لم تنشر بعد، وبأخوين قتيلين.
لن أتحدث هنا عن نشاطاتك، فرهاد، ولا عن كتاباتك، ولا عن خدماتك للغتنا الجريحة، ولا عن حوادث السير، ولا عن حوادث القتل، ولا عن مساهماتك التي لا حصر لها لإنعاش الثقافة الكردية المُحارَبَة في عقر دارها، كما لن أمدحك اليوم، فأنا لا أحبّذ مديح الراحلين عنا، ما أود التحدث عنه اليوم فقط، هو هذا الحزن الطويل القامة الذي تركته لنا، هذا الحزن الذي نعايشه يومياً، ونكاد أن ننساه. شكراً لأنك نبهتنا إلى ظله الثقيل، وإلى عينيه المبتليتين بالعماء.
هناك أمسية أدبية في القامشلي وأخرى في عامودا، ولن يحضرها فرهاد.
هناك مهرجان الشعر الكردي في عفرين أو كوباني ولن يديره فرهاد.
هناك مجلة كردية جديدة قد تكون باسم زانين أو كلستان، ولن يكون في هيئة تحريرها فرهاد.
هناك فرق فولكلورية كردية باسم روشن أو نوروز، ستتابع رقصاتها في نوروز دون أن يكون فرهاد موجوداً.
هناك كاتب كردي ضيف، قادمٌ من الخارج لدى “كوما خاني” في حلب، مِنْ هناك سيتجه إلى القامشلي، ولن يلتقي فرهاد.
هناك ثلاثة أطفال لا يستطيعون مخاطبة أحد بـ “يابو” بعد فرهاد!!!
هناك كتابٌ كردي جديد صدر منذ فترة، كيف سيصل إلينا دون فرهاد؟
هناك كلماتٌ كردية قليلة بقيت في الفم، أما كان بإمكانك الانتظار قليلاً حتى أقولها لك، فنضحك معاً، ولو لمرةٍ واحدة؟
يا الله، أية أرضٍ هذه التي تستطيع أن تستوعب أحزاننا المتوافدة على الباب كل لحظة. الأرض ضيقة وصغيرة، حزننا واسعٌ وكبير.
لذلك نحن أبطال الخسارات، نتساقط واحداً بعد الآخر من شجرة الموت، بلا خوض المعارك بقيادة جيوشٍ جرارة، أو هدير الدبابات والطائرات الحربية، ما نستطيع أن نفعله هو أن نشهر هذا الحزن العظيم في وجه العالم، وها نحن نفعل، ولكن هل من أحدٍ يدري؟ هل من أحدٍ يسمع صوت الحزن يا ترى؟

أم أن الحزن نفسه أصم، وأعمى تماماً مثل الموت؟

 

Share Button

عن PDPKS

x

‎قد يُعجبك أيضاً

صدور العدد الجديد 648 من الديمقراطي

صدر العدد الجديد 648 من جريدة الديمقراطي التي يصدرها الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، ...