يبدو أن تنظيم «داعش» في طريقه لتدمير ماضي السوريين وهويتهم وتراثهم الثقافي والحضاري والعمراني أيضاً. كما أن النظام السياسي يدمّر بدوره حاضرهم ومستقبلهم الثقافي والحضاري والعمراني أيضاً. وبذلك يتم تجريد السوريين من هويتهم وثقافتهم ويتحوّلون إلى مجتمع مفكك لا تربطه قيم ولا تقاليد ولا تراث ثقافي وأخلاقي وحضاري، ويشغلون وقتهم بالحديث عن نتائج الشروخ التي أدّى إليها عنف السلطة وممارساتها الهمجية خلال السنوات الأربع الماضية، مثل تعميق الشرخ الطائفي والقومي والشروخ القيميّة والأخلاقية، واكتساب تقاليد وعادات جديدة وقيم جديدة مشوّهة بسبب العنف والممارسات التي قام بها رجال السلطة وأعوانها.
دمّر تنظيم «داعش» تماثيل ملوك وآلهة شعوب بين النهرين القديمة وتراثها، وشرّد بقايا هذه الشعوب وحرمها من جميع حقوقها، وباع نساءها في سوق النخاسة. وهذه الشعوب كما نعلم هي أصل السوريين وسكان شمال العراق. ومارس تنظيم «داعش» عقوبة القتل بالذبح بالسكين، وعاقب بالموت على أقل (الأخطاء) كالتدخين أو نقد الفقه أو الاجتهاد في الدين الذي اعتبره الإسلام شبه واجب على المسلم. كما طبّق أقسى العقوبات على من يستعمل عقله أو يجري محاكمة الظروف المحيطة به للوصول إلى اتخاذ موقف مناسب منها. وأخذ رجاله يقلدون ممارسات المسلمين الأوائل في القرن الهجري الأول، مع أنها في الواقع ليست ممارسات مقبولة من صحيح الدين، وإنما اجتهادات بشرية للمسلمين الأوائل مرتبطة بالظروف المحيطة والمرحلة التاريخية وحاجات الناس في ذلك الزمن العتيق. كما بدأ يستدعي تلك الممارسات ويطبّقها في عصرنا مع مبالغة ملحوظة، متجاهلاً الظروف والزمان والمكان. وفي الخلاصة، أخذ يطبق قوانين الماضي على الحاضر ويمحو ثقافتنا وحضارتنا اللتين تراكمتا خلال أربعة عشر قرناً، وأنماط عيشنا التي تبنيناها، سواء في القضايا الأساسية أم في القضايا الثانوية كاللباس والطعام والشراب. من جهة أخرى، أخذت جيوش «داعش» تبني دولة من دون هيكلية أو سلطات متعددة أو مؤسسات تخدم الناس. فرأت تعيين خليفة وولاة وقضاة من دون تراتبية أو معايير، وأعطتهم كامل الصلاحيات. وإن كانت هذه الدولة تنفع في مرحلة الإسلام الأول، فإنها لا تنفع الآن. فقد تم تطويرها بشكل كبير جداً منذ أن قامت الدولة العربية الإسلامية، ومن الواضح أن دولة «داعش» تتجاهل أو تجهل جميع التطورات التي حصلت على وظائف الدولة الإسلامية وهيكليتها، وقيام الخلفاء الأوائل بإنشاء الدواوين وتبني التقاليد البيزنطية في الحكم وتنظيمهم لواردات الدولة ونفقاتها. كما تجهل أو تتجاهل أن الدولة تطورت في العصرين الأموي والعباسي الأول تطوراً مدهشاً، فأصبحت لها دواوين (مؤسسات) وسلطات تنفيذية وقضائية وحددت صلاحيات الولاة والأجهزة التابعة لها. كما تحددت وظائف الدولة وأهدافها التي كانت تنص بشكل واضح على خدمة الناس وتحقيق مصالحهم (حيث مصالح الناس حيث شرع الله)، وقد اهتمّت الدولة في ضوء ذلك بنشر الثقافة والتعليم والصحة وإيجاد عمل للناس وتنظيم الدخل والإنفاق وبناء الجيوش وموظفي الدولة وتعميق الثقافة الإسلامية. وهذا ما يبدو أن دولة «داعش» لا تعرفه ولا تعترف به وتريد إعادتنا إلى الجاهلية، أي إلى ما قبل الإسلام، وتمسح ماضينا القومي والديني والثقافي وتقاليدنا وعاداتنا وخبراتنا.
أما السلطة السورية القائمة، فدمّرت الحاضر وهي في طريقها إلى تدمير المستقبل. فقد دمّرت المساكن وخربت الاقتصاد وقتلت المواطنين ومازالت تقتلهم بالمدفعية والصواريخ والبراميل المتفجّرة. وجربت بهم كل أنواع العنف، واستخدمت جميع أنواع الأسلحة، ولم تراع في ذلك لا القوانين السورية ولا الأعراف الدولية ولا العادات والتقاليد وكأن الشعب السوري عدوّ مبين. وكأن العصر عصر ما قبل القانون الدولي وعصر الهمجية، ليس هذا فقط بل إن ممارسات العنف والفوضى والتسلط العسكري والقمعي على حياة الناس، والابتزاز والخطف والفساد والرشى، خلقت تقاليد جديدة وأخلاقاً جديدة لدى الشعب السوري. وفي الوقت نفسه، لا تتصرف السلطة بأي مسؤولية تجاه الشعب، حتى تكونت ثقافة لدى الناس أن السلطة لا علاقة لها بهم، وأن وظيفتها الوحيدة هي القمع والمصادرة والابتزاز. والسلطة نفسها تمارس العنف وتتجاهل مطالب الناس وتهملها وكأنها ليست سلطتهم، وبالتالي تخلّت عن الحاضر بعدما دمّرته وصار حاضر الشعب السوري لا يرضي أحداً في مختلف جوانب حياته. فهو لم يعد يذوق طعم الأمن والاستقرار، كما لم يعد يشبع الخبز ناهيك عن ممارسة الترفيه. واستطراداً لم يعُد الوزير وزيراً والأمير أميراً والمدير مديراً، ولم يعد للسلطة ورموزها أهمية أو قيمة في نفوس الناس. وغدا السوريون مجتمعاً مفككاً بشروخ طائفية وبظروف ضاغطة فالناس غير الناس والمجتمع غير المجتمع والقيم غير القيم (وترى الناس بسكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد).
أما المستقبل فقد أتلفته السلطة أيضاً، فهي ترفض أي حوار مع الفصائل السياسية أو التيارات الاجتماعية والاقتصادية. وعليه، فليس في برنامجها إقامة أي نظام وطني جامع، يلغي أخطاء السلطة التي تراكمت خلال عشرات السنين نظاماً ديموقراطياً تعددياً تداولياً يحترم الناس ويحمّلهم مسؤولياتهم، ويفصل السلطات ويحارب الفساد ويعيد للشعب عنفوانه وكرامته وأمنه. ومازالت السلطة تصرّ على أمرين في آن واحد، أولهما أنها قادرة على تحقيق نصر عسكري على المنظمات الإرهابية وعلى المعارضة المسلحة، ولم تقرّ حتى الآن باستحالة تحقيق هذا الهدف، ولذلك تستمرّ بممارسة العنف ومواصلة الحرب الداخلية والتدمير. والأسوأ أنها استعانت بميليشيات محلية وعربية، ما زاد الشرخ وقسم المجتمع السوري عمودياً، كما زاد استحالة تحقيق النصر العسكري لأي من الطرفين بعدما دخلت الغرائز بالحرب وغاب العقل.
أما ثاني الأمرين، فإن السلطة ترى أن النظام السياسي الذي أقامته هو نظام كامل ولا عيب فيه، ويحقق أهداف الناس ومطالبهم وحرياتهم ومساواتهم. وبالتالي فهو نظام لا يحتاج إلى أي تغيير أو تطوير. وترى أن الدولة الأمنية التي أقامتها هي أمر طبيعي وضروري للدول جميعها، وهي سعيدة بما يترتب على ذلك من قمع وابتزاز وفساد وغير ذلك. وفي الخلاصة لا تنوي ولا ترى أصلاً ضرورة للتطوير، وتصرّ على إبقاء كل شيء على حاله، مما يوحي بمستقبل للشعب السوري أشدّ سواداً. هكذا، يخسر السوريون الحاضر والمستقبل بعدما بدأوا خسارة الماضي.
تدمر «داعش» الماضي وتدمر السلطة الحاضر والمستقبل، ونرى جامعة الدول العربية والدول العربية نفسها والاتحاد الأوروبي والإدارة الأميركية والصديق الروسي والجار الإيراني لا يتفرجون فقط على المأساة السورية، بل يستغلّها كل منهم لتحقيق مصالحه وأهدافه. فكأن سوريا بلد مشاع لمن يريد أن يمتلك منها شيئاً أو يستفيد منها شيئاً، إلى أن وصلت هذه الـ(سوريا) إلى حال محزن، فنصفها يهيمن عليه «داعش» والنصف الآخر مقسّم بين السلطة التي لم تعد تسيطر إلا على هذه المدينة أو تلك وبين المسلحين من منظمات إرهابية أو مسلحين من المعارضة، أو من سيطرة لا أحد. فأي سوريا هذه التي كانت محركاً لحركة التحرر العربية والداعية الفعالة للوحدة العربية، والتي كانت هيبتها تخيف أي نظام سياسي عربي، أكان تقدمياً أم رجعياً، وها هي الآن على الحال التي ذكرت عليلة مريضة، على أبواب التقسيم والهلاك.