مذهلة طريقة تعامل دول الممانعة مع التطورات الكبرى الجارية في المنطقة. كلما طرأ تطور جديد في سياسات الدول الكبرى تجاه الملفات الأساسية الشاغلة للشرق الأوسط بدت تلك الدول الأقرب إلى فهم أبعاد تلك السياسات وإلى أن تبني عليها ما يقتضيه ذلك. وهذا بالضد من سياسات خصومها الإقليميين، الذين يلعبون دور المقلّد الرديء، والبليد الفهم، المضطر للشعور بالحروق، كي يدرك أن النار تحرق.
أمّا خصومها الدوليّون، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية، فيبدون مترجحين ما بين سياسة أوباما وفريقه التي ترى أن التسوية مع إيران ضرورية، لكنها تقتضي نفساً طويلاً وسيراً سلحفاتياً، ربما تختنق المنطقة برمّتها، قبل ان تتبلور كامل قسماتها. وذلك في مقابل رأي آخر يقول أن لا حليف حقيقياً لأميركا في هذه المنطقة سوى إسرائيل، وما على أميركا كي تكون القوة العظمى الوحيدة إلا تكسير رؤوس الساعين إلى مزاحمتها. و «داعش» هنا، بنظر هؤلاء، لا تزاحم أميركا على نفوذها الإقليمي بقدر ما تفعل إيران. هنا تغدو «إيران أخطر من داعش» (هنري كيسينجر).
قبل أيام فحسب، قال مسؤولون ايرانيون كبار لـ»رويترز» إن «ايران على إستعداد للتعاون مع الولايات المتحدة وحلفائها في محاربة متشدّدي تنظيم الدولة الإسلامية، لكنها تودّ أن تشهد قدراً أكبر من المرونة بشأن برنامجها لتخصيب اليورانيوم».
تصريح، يشبه في تركيبته بهلوانيات المسؤولين الإيرانيين أثناء مفاوضاتهم. إذ يتشدّدون لفظياً، حرصاً على معنويات الأكثر تشدداً من الجمهور، ثم يعرضون شروط الصفقة المنشودة في ما تبقى من التصريح. فإذا جاء الردّ الغربي سلبياً، يتم اللجوء مباشرة إلى نفي التصريح، جملة وتفصيلاً. على كلّ ليس هنا موضوعنا، بل في محل آخر تماماً.
في اليوم نفسه لخبر «رويترز» نفى «مصدر رفيع» في الخارجية الإيرانية ما نقلته «رويترز» عن مصدر إيراني مسؤول أن بلاده يمكن أن تتعاون في محاربة «داعش» إن أبدى الغرب مرونة في الملف النووي، مؤكداً لقناة «الميادين» ان «إيران لا يمكن أن تربط الملفات ببعضها وأن مواقفها في الشأن النووي ومن التحالف الدولي لمحاربة داعش ثابتة لا تتغير». ويبلغ النفي أوج استنكاره في القول ان «لا مكان لسياسة خلط الملفات في الديبلوماسية الإيرانية»!
غير ان المفاجأة الكبرى ليست هنا أيضاً. ففي تصريح له خلال مقابلة مع رؤساء تحرير أميركيين على هامش فعاليات الدورة الحالية للأمم المتحدة في نيويورك (الـ «بي.بي.سي»، 24 سبتمبر/ أيلول 2014)، قال الرئيس الإيراني حسن روحاني إن بلاده «على استعداد للتعاون في الحرب ضد ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية في حال تم التوصل الى اتفاق مبكر حول المحادثات النووية». وقد أوضح مراده خلال كلمته في اليوم الثاني من أعمال الدورة، حيث دعا «السياسيين المعتدلين ونخب الشرق الأوسط» إلى أن «يتحمّلوا هم مسؤولية القيادة للتصدي للعنف والإرهاب»، مضيفاً أنه «إذا أرادت أي دولة أخرى أن تقوم بتحرك ضد الإرهاب، فيجب أن تأتي لدعمهم».
على أن وضع تصريحات روحاني «الأميركية» في سياق واحد قد يسعف في إستجلاء بعض غوامضها. ما يريد روحاني قوله فعلاً هو ان إيران مستعدة للمشاركة في الحرب ضد «داعش» لكن شرط ان يسبق مشاركتها إتفاق على ملفها النووي، وذلك قبيل إنتهاء المهلة المتاحة للإتفاق في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، وأيضاً شرط أن تكون الحرب ضمن تحالف إقليمي تقوده إيران، بوصفها القوة العظمى الإقليمية، المعترف بها دولياً. وإذ لا تستبعد إيران طلب التحالف دعم أميركا، غير انها في الوقت نفسه تريد هذا الدعم بناء لطلب منها. في ما عدا ذلك، ستكون «إستراتجية الغرب في الشرق الأوسط مغلوطة»!
هذه هي، إذاً، خلاصات تصريحات الرئيس الإيراني الأخيرة، التي قطعت الشك باليقين، بعد سلسلة من التصريحات مجهولة المصدر، والتي هدفت إيران من ورائها إلى استكشاف مسبق لمواقف أميركا، قبيل المبادرة إلى خطوة عملية. علماً أن الإشارات الأولى لإيجابية أميركا تجاه إيران، كانت بدأت قبيل إنطلاق ضربات التحالف الدولي لمواقع «داعش» في سورية. فقد أعلنت سورية لحظة «العدوان» الأول، كما وصفه وزير الخارجية وليد المعلم خلال مؤتمر صحافي رفع الممانعون بعده شعارات «لا للإرهاب، لا للإحتلال»، ان «العدوان» جرى بالتنسيق معها. تارة، عبر العراق، وطوراً عبر مندوب سورية في الأمم المتحدة! المهم أن «العدوان» حصل، وسورية، ومن خلفها إيران، موافقة عليه، بل مشاركة فيه عملياً، إن من خلال ضربات طائرات النظام السوري لبعض مواقع «داعش»، أو من خلال تلزيم حصار «داعش» و «النصرة» على الحدود اللبنانية – السورية إلى إيران وحلفائها اللبنانيين.
في مطلق الأحوال، تبدو إيران بارعة في التعاطي مع الوقائع الجديدة، أكثر بكثير من خصومها. وبراعتها نابعة، لا من ذكاء إستراتيجي إستثنائي، بقدر ما هي نابعة من ضعف مستوى الآخرين الإستثنائي. وهي، إذ تعتمد إستراتيجية مرشدها الأعلى عبر إبداء «مرونة المصارع»، تبدو كما لو أنها لا تريد للحَكَم ان يعلن نهاية جولة الصراع. ذاك أن المصارع الإيراني يحصد النقاط من إطالة أمد المعركة ما أمكن، مع مصارع أميركي لا يستطيع أحد ان يغلبه. هدف إيران، إذاً، جمع أكثر عدد ممكن من النقاط، لا الفوز بالضربة القاضية، أو حتى بالحصيلة النهائية. قوّتها هنا. أما قوة أميركا ففي أنها لا تتلقى أي ضربة، وفي كون النقاط التي تحصدها إيران، تحسم من رصيد حلفائها الإقليميين، لا من رصيدها هي.
الفارق بين إيران وخصومها الإقليميين أنها تفاوض أميركا من أجل الموقع الأول في الإقليم، في حين أن خصومها يفاوضون أميركا من أجل ان تمنع إيران من تبوؤ هذا الموقع.
إيران لا تحدّد موقعها بالشعارات، بل بالسياسات. أصلاً، شعار «الحرب ضد الإرهاب» التي ترفعه اليوم هو هو شعار أميركا.
أما موقعنا نحن، «شعوب» هذه المنطقة وبشرها، فلا محل له من الإعراب في هذه اللوحة الجيوسياسية. قوانا الطائفية تساوم علينا، لا من أجلنا. نرانا، مخيّرين بين الخراب… أو الخراب.