لا كلمة تُسمع اليوم في أيّ من العواصم العربيّة كما تُسمع كلمة “داعش”. ولا كلمة تُكتب في الصحافة العربيّة اليوم كما تُكتب كلمة “داعش”. وما من موضوع يُناقَش ويُعلّق عليه ويخضع للأخذ والردّ كموضوع “داعش”. والراهن أنّ ثمّة بالتأكيد ما هو خاصّ واستثنائيّ في هذه الظاهرة المعروفة أيضاً بتنظيم “الدولة الإسلاميّة”، وإن انطوت أيضاً على الكثير ممّا هو استئنافٌ لما سبقها من ظاهرات. فهي تذكّر بصفحات من تاريخ القسوة والاستبداد كان آخرها ما أنتجته أنظمة كالنظام السوريّ وباقي الأنظمة التي لم تتورّع عن قهر شعوبها عقداً بعد عقد. إلاّ أنّها تذكّر أيضاً بالحالات التي جمعت بين أقصى البدائيّة وممارساتها، كالذبح والصلب والحرق، وبين فعاليّة وتنظيم حديثين تستند إليهما عقيدة هي، بالتعريف، من منتجات الحداثة. فإذا كان هذا الاتّساع التمثيليّ واحداً من الأسباب الكثيرة التي تؤدّي إلى هذا التمركز الكلاميّ والاهتماميّ على “داعش”، فإنّ ثمّة سبباً آخر يتّصل باتّساع الظاهرة ذاتها. فهي ظاهرة سياسيّة بالطبع، حيث دول العالم المؤثّرة كلّها تتناولها، وبعضها يتدخّل ضدّها أو يخطّط لمثل هذا التدخّل. وهي ظاهرة عسكريّة يُعنى بها من يهتمّ بالحروب والأسلحة، لا سيّما بعد انتصارها في انتزاع مدينة الموصل، ثانية مدن العراق، من جيش كلاسيكيّ ضخم كلّفت إعادة ترميمه بلايين الدولارات.. إلاّ أنّ “داعش” أيضاً تثير نقاشاً في التاريخ الإسلاميّ وفي الدين والإصلاح الدينيّ، كما تثير نقاشاً آخر يتعلّق بالحداثة ومدى استدخال العرب والمسلمين في العصر الحديث لهذه الحداثة، أو مدى فشلها في التغلغل العميق إلى صلبهم. ولم يعد نقاش “داعش”، وتماماً كما حصل بعد جريمة 11 سبتمبر (أيلول) 2001، بعيداً عن تناول مسائل التربية وبرامج التعليم في العالم الإسلاميّ، أو قنوات اندماج المهاجرين المسلمين، لا سيّما شبّانهم، في المجتمعات الغربيّة التي هاجروا إليها وأقاموا فيها. ولئن فتحت “داعش” باباً للمقارنة مع التاريخ الأوروبيّ والمسيحيّ، فهي كذلك تحضّ البعض على إرسال تكهّنات وتأمّلات تتّصل بـ”الطبيعة الإنسانيّة” ومعاني القسوة والتوحّش، مثلما تحضّ على إجراء المقارنات بين أشكال القسوة والعنف، القديم “التراثيّ” منها وذاك “الحديث”. ولا يفوت متابعي “داعش” ما يحفّ بها وبحركتها من قياميّة ومن استحضار لأفكار النهايات وأساطيرها. فالحدود الوطنيّة تتغيّر والدول تزول، كذلك تعود إلى واجهة الاهتمام أقلّيّات كالإيزيديّين والأشوريّين في العراق ممّن يرقى وجودهم هناك إلى آلاف السنين، بينما يتهدّد بعضَ الأقوام والجماعات خوفٌ من الإبادة الثقافيّة، إن لم يكن الجسديّة أيضاً. وهذا كلّه ممّا يمزج الواقع بالتخييل اللامعقول مؤسّساً لعالم ملحميّ قد يتلقّفه الأدب والإبداع في أوقات لاحقة. فوق هذا فإنّ مناخ الحرّيّة – وقد انقلب الكثير منه إلى فوضى – يشكّل سبباً آخر للتركيز على “داعش”. ذاك أنّ أشكال العنف والقمع والقسوة، وهي عديدة، ممّا عرفته المنطقة كانت محاطة بأجواء من السرّيّة والتكتّم اللذين يحولان دون الشيوع والانتشار. لقد كان، مثلاً لا حصراً، صدور كتاب كنعان مكّيّة (سمير الخليل) “جمهوريّة الصمت”، في أوائل التسعينات، بمثابة اكتشاف باهر للطريقة الوحشيّة التي يحكم بها صدّام حسين العراق، علماً بأنّ العراقيّين كانوا قد بدأوا يعانون هذا النمط من الطغيان منذ 1968. والشيء نفسه يمكن قوله عن ذيوع كتب عن ليبيا معمّر القذّافي أو عن سوريّا حافظ وبشّار الأسد مع بدايات الثورتين الليبيّة والسوريّة. والحال أنّ مناخ “الربيع العربيّ”، وإن انقلب كثيره إلى “شتاء”، هو ما سمح بهذا التحوّل، وقد ساعده في ذلك، على ما أشار غير مراقب ومعلّق، عالم المشهديّة الصارخة الداعشيّ في زمن بات يوصف بالصورة والتواصل الإعلاميّ المتعدّد الوسائط. فليس غريباً، بالتالي، أن تتربّع “داعش” على عرش ألسنتنا ورؤوسنا وفي كلّ مكان تقع العين عليه.
نقلا عن الحياة