العنوان الأصلي: سوريا وأوباما وبوتين
سيدي القاضي،
أقف أمامكم هنا مرة أخرى للدفاع عن سياسة الرئيس باراك أوباما في سوريا.
لقد كان أوباما محقاً في تحفظه على التدخل في سوريا، لكنه لم يملك الشجاعة الكافية ليوضح أسباب تحفظه ذاك للشعب الأمريكي، وسمح للآخرين بأن يملوا عليه ما يقول ويفعل بالرغم من عدم قناعته بأي منه، فأضحى في أسوأ المواقف.. حيث خطابه سبق سياسته، وسياسته لم تنجح.
وفي الوقت ذاته لم يتعلم ناقدوه الجمهوريون أي دروس من تجاربنا السابقة، فهم لا يفتؤون يدعون لتدخل عسكري في سوريا رغم غياب الأسباب التي قد تدعونا للاعتقاد بأنه سيحظى بنجاح أكبر مما شهدنا في العراق أو ليبيا. أناس لا يعرفون كيف يمكنهم إصلاح مدينة بالتيمور القديمة يعتقدون أنهم بإمكانهم إنقاذ مدينة حلب.. بالطائرات!
بالنسبة لي شخصياً أفضل القائد الذي يفتقد الشجاعة للاعتراف بتحفظه على النقاد الذين لم يتعلموا من تجاربهم، مع الأخذ بالاعتبار أن التحفظ ليس ذريعة لعدم القيام بأي عمل، إذ هناك ما يمكننا عمله مما يؤثر في الأحداث ولكن فقط إن تمعنا في أعدائنا وأصدقائنا في سوريا ملياً.
فالاعتقاد السائد اليوم مثلاً يقول بأن الثعلب الماكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد تفوق مجدداً على الأمريكان المتوانين، بإرساله بعض قواته وطائراته ودباباته إلى سوريا لدعم نظام الرئيس بشار الأسد ولمحاربة قوات الدولة الإسلامية التي تهدده، ليت رئيسنا كان بهذه الجرأة والصلابة والذكاء.
أحقاً نريد ذلك؟ فلنتمعن في الأمر للحظة ولنقُل أن الولايات المتحدة لم تحرك ساكناً في الوقت الحالي، وتركت الساحة لبوتين ليقصف داعش ويدعم الأسد. كم من الوقت سيستغرق الأمر حتى يصبح بوتين هدفاً رئيسياً لكل جهادي، بل لكل مسلم سني أيضاً في الشرق الأوسط؟
يشكل المسلمون السنة الأغلبية الساحقة من الشعب في سوريا، وهم كذلك الطائفة الأكبر في العالم العربي. وبالنسبة لهم فإن روسيا وبوتين يضعان كل ثقلهما لحماية الأسد، وهو الشيعي-العلوي مجرم الحرب حليف الإيرانيين الذي أباد الجموع، فيكون بوتين بذلك قد استعدى المجتمع المسلم السني برمته، بما فيهم المسلمين الروس. علاوة على ذلك، فلنقل أن روسيا تمكنت من الانتصار على داعش بفعل معجزة ما، ستكون الطريقة الوحيدة للحفاظ على هذا الانتصار هي إحلال السنة المعتدلين محلهم. أي معتدلين من السنة سيقبلون بالتحالف مع روسيا، وبوتين بنظرهم المخلّص الرئيسي لبشار الأسد الذي قَتل منهم بالبراميل المتفجرة أكثر مما قتل من أي طائفة أخرى على الأرض؟
لقد كان دخول بوتين إلى سوريا قراراً أخرقاَ، هدفه الحصول على مكاسب آنية وإقناع شعبه بأن روسيا ما زالت قوة عظمى. وهو الآن عالق، وعلى أوباما وكيري أن يتركاه عالقاً مع الأسد لمدة شهر يحارب داعش، ويكتفيا بالفرجة عليه وهو يتحول إلى العدو الأول للعالم المسلم السني.
سيكون دورنا في إيجاد حل سياسي في سوريا هو المخرج الوحيد لبوتين من مأزقه، وهذا لن يحدث قبل أن يُرغِم الروس والإيرانيين الأسدَ على التنحي والخروج من البلد بعد فترة انتقالية، مقابل موافقة المعارضة على الحفاظ على أمن ومصالح طائفة الأسد العلوية، مع موافقة الطرفين على بقاء قوة دولية على الأرض لضمان تحقيق الاتفاق.
إلا أن الوصول إلى تلك النقطة سيتطلب منا مطابقة خطابنا مع مصالحنا في سوريا، فمصلحتنا الآن تقتضي القضاء على أو الحد من أكبر خطرَين ينتشران في المنطقة: داعش التي تهدد المناطق المستقرة في المنطقة كلبنان والأكراد والأردن، ومأساة اللاجئين السوريين الذين يتدفقون أفواجاً إلى لبنان والأردن في أعداد يمكنها –إن استمرت على هذا المنوال- أن تزعزع استقرار الاتحاد الأوروبي، حليفنا الرئيسي في العالم. أما إن أردنا أن نحقق هدفاً أفضل كديمقراطية متعددة الطوائف في سوريا فعلينا أن نذهب هناك ونصنعها بأنفسنا، والتفكير بإمكانية تحقيق ذلك من خلال تسليح السوريين المعتدلين فقط هو ضرب من الجنون.
لتبيان ذلك فلننظر إلى تقرير نشرته مجلة التايمز خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضية جاء فيه أن “حوالي 30 ألف مقاتل أجنبي قد توجهوا إلى العراق وسوريا قادمين من أكثر من 100 دولة منذ عام 2011”. إذاً هناك 30 ألف شخص قد ذهب إلى سوريا للانضمام إلى داعش والدعوة إلى الجهاد والخلافة. ما هو عدد العرب والمسلمين الذين ذهبوا إلى سوريا للدعوة إلى ديمقراطية متعددة الطوائف؟ صفر على ما يبدو. ومن جهة أخرى، لماذا علينا البحث عن معتدلين عشوائياً وتدريبهم فيما تتوافد حشود المجاهدين إلى هناك بلا حاجة إلى تدريب؟ لأن المجاهدين يؤمنون بمبادئ (رغم اعوجاجها) بينما لا نجد كمية كافية من المعتدلين الملتزمين بمبادئ أو مُثل، فهم مستعدون للقتال من أجل بيوتهم وعوائلهم.. ولكن ليس لمُثل مجردة مثل الديمقراطية، ونحن نحاول التعويض عن ذلك بالـ “تدريب” العسكري، لكنه لم ينجح يوماً.
إذاً هل هناك أي ديمقراطيين حقاً في خضم المعارضة السورية؟ بالطبع، ولكنهم ليسوا بعدد كافٍ، وليسوا على ذات القدر من التنظيم أو الحماسة أو الضراوة التي يبديها خصومهم.
الكل يطمح إلى تدخل مثالي في سوريا، يبدو فيه وكأنه يفعل شيئاً ولكن بلا تحمل التكلفة السياسية التي تأتي مع إرسال جنود على الأرض أو تقديم تنازلات غير مرغوبة لجماعات غير مقبولة. إلا أن هذا الخيار غير متوفر.
أعتقد أن هرع بوتين إلى سوريا سيُحيجه أكثر إلى صفقة، أو على الأقل إلى وقف إطلاق نار دائم، من شأنه أن يوقف تدفق اللاجئين. وإن استطعنا تحقيق ذلك كبداية فسيكون إنجازاً عظيماً