
عاش الفنان النرويجي مونش ( ١٨٦٣- ١٩٤٤ ) حياته في مدينة أوسلو، بين عائلة مسيحية متشدده ، متكونه من سبعة أشخاص. كان فيها الإبن الثاني بين خمسة أبناء. وكان الأب الذي يعمل طبيباً في الجيش، شديد الحرص على أن يلتزم أبنائه بتعاليم وتقاليد الكنيسة الصارمه، حيث كان يزرع في نفوسهم الحذر والقلق والخوف من إرتكاب معاص تتعارض مع تلك التقاليد، التي تتسبب في الآخِر بالعقاب والعذاب الأبدي. تُوفيت أمه وهو في سن الخامسه بعد إصابتها بمرض السل. ثم تلتها أخته التي لم تبلُغ عامها الرابع عشر. في سن الواحد والعشرين من عُمره تُوفيَّ والده، ولم يمضي وقت طويل على ذلك حتى أُصيبت أُخته الأخرى بالجنون ووضعت في مصحة خاصة بالأمراض العقلية.
تركت تلك السنين القاسيه من حياة التشدد والأحداث المريره التي عاشها في طفولته، ومن ثم فترة شبابه الأولى وطأتها ومرارتها فيما بعد على حياته بشكلٍ عام. لم يستطيع التخلص من آثارها بسهوله، حيث ظل مسكوناً بالهواجس والأفكار المؤرقة التي رافقته الى فترات متقدمه من عمره بعد أن أصبح فنانا مشهورا. إنعكست بعد ذلك بشكل واضح على أعماله الفنية ونصوصه الشعرية التي كان يكتبها بين الحين والآخر.
وقد كتب في ما بعد، في مذكراته حول ذلك: كانت ملائكة الخوف والندم والموت تحفُّ بي منذُ أن وُلدت، ولم تكف عن مطاردتي طوال حياتي. كانت تقف إلى جانبي عندما أغلقُ عيني، وتُهددني بالموت والجحيم واللعنة الأبدية. *
خلال مرحلة شبابه، وحين قرر أن يكون رساماً، عاش حياة قلقه ومضطربه دفعت به الى سلوك طريق آخر مُعاكس لحياته الأولى. قاده الى الضياع والعدمية لما يُقارب العشر سنوات من حياته، بعد تأثره بكتابات دستوفسكي وأفكار الفيلسوف العدمي هانز غيفر، الذي كان يدعو الى رفض حياة المجتمع البرجوازي ونبذ الدين. ويدعو الى الحريه الجنسيه والإنحلال أو الإنتحار كوسيلة للرفض أيضاً. ثم لجأ الى العيش بطريقة بوهيمية بين ستة فنانين تعرف عليهم في ما يُسمى بالحيّ البوهيمي
الذي يقطنه العديد من الفنانين. أدمن تعاطي الكحول والأفيون، وحاول الإنتحار بسببهما. ثم أُصيب بالزهري وعاش فقيراً جائعاً. وجرب أن يعيش علاقة حب مع إمرأه في مرسم صغير يشاركه فيه ستة فنانين للسكن والعمل، لكنه فشل فشلاً ذريعاً في ذلك أيضاً.
وقد ذكر فيما بعد عن تجربته التي عاشها مع هؤلاء الفنانين، بأنها الأكثر غِنى وتأثيراً في حياته الفنيه كرسام ، فتحت له آفاقاً كثيرة وتصورات حول القضايا التي تعرض لها من خلال أعمال الرسم والحفر (الكرافيك) التي أنتجها في تلك الفترة. وبالتحديد حين كان في سن الثامنة والعشرين من عمره. ومن أهم تلك الأعمال، لوحته الشهيرة (الصرخة) ، التي تُعتبر رمزاً للقلق وإنكسار الروح اللتان كان يعاني منهما في تلك الفترة الزمنية من حياته.
الفنان مونش رسام يجمع بين التعبيريه والرمزيه، ويكتب الشعر أيضاً. و بحسب أراء بعض الباحثين ومؤرخي الفن، يُعتبر من الأوائل الذين مهدوا لظهور الحركه التعبيريه في أوربا فيما بعد، أثناء الحرب العالميه الأولى والثانيه، بعد أن تمكن من الحصول على إستقرار نسبي في حياته وسفره الى باريس ودول أوربية أخرى، ولقائه بالعديد من الفنانين هناك، والإستفادة من تجاربهم في اللون. ومنهم: فان كوخ، سورا، غوغان، مونيه ولوتريك.
من خلال أعماله الفنية، التعبيرية الرمزية التي تجمع بين الرسم والحفر على المعادن والخشب، كان شديد الحرص والإهتمام على إخراج أكبر قدر ممكن من المشاعر الإنسانية الدفينة في أغوار النفس البشرية، التي تشتمل على حالات الإصابه بالأمراض النفسيه والعقليه وصور الموت أيضاً. وحالات الصراع الداخلية بين التفاؤل والخيبة والخذلان التي تتسبب نتيجة علاقات فاشله في الحُب والجنس . كذلك، الخسارات التي يواجهها الإنسان في حياته بعد تعرضه الى أزمات إنسانية نتيجة ظروف إستثنائية خارجة عن إرادته.
الفنان مونش، لا يولي قدر كبير من الاهتمام في الجانب الجمالي في أعماله، حيث يظهر ذلك واضحاً من خلال تلاوينه لأشخاصه وعناصره الأخرى التي يتكون منها العمل الفني . تبدو تلك الشخصيات أو الوجوه وكأنها مشوهة نتيجة لتأثرها بعامل خارجي، أو أنها تعكس ما بداخلها من آلام إنسانية جعلتها تظهر على هذا النحو الغريب. وفي أحيان أخرى نرى بعض الوجوه والأشخاص تتمثل على شكل خطوط بسيطة أو لمسات لونية غير واقعية، وكأنها رُسمت على عجل أو بطريقة لاهية بين مساحات لونية نجدها تارةً حارة وأخرى باردة، أراد الفنان من خلالها إضفاء طابع رمزي على تلك الأجواء الموحشة. خاصةً. خلفيات بعض الأعمال التي تظهر فيها مشاهد أُفقية للسماء ذات ألوان حمراء وبرتقالية تعكس ألواناً داكنة وظلال موحشة للأشخاص، وكأنها أشباح ملاصقة أو مرافقة لهم أينما ذهبوا، تحمل معها وقعاً درامياً موحشاً يترك آثاره للوهلة الأولى من مشاهدة تلك الأعمال.