… الاستاذ عبد الحميد درويش، هو مزج الفاعل بين الذكاء و الخبرة و الإرادة يجعل مفهـومات في نوع من الحـركة الدائـبة ، مفهوم يكبر ، و آخـر يضمر ، و نقـط تزداد تفصيلاً ، و أخرى تزداد تركيزاً ، أفكار جديدة لديه تفقد بريقها بسرعة ، و أفكار قديمة تنبعث حية لتخط خطاً جديداً … هذه الوضعية تجعله في حالة من التألق الدائم ، وهذا التألق قد يفسر لدى الكثيرين على أنه تناقض و اضطراب ، على حين أنه نوع من الاستجابة الناجحة للمرونة الذهنية العالية ، والروافد الثقافية الثرية ، والإرادة الحرة الصلبة ،. وإيثار الآجـل على العاجل ، و الدائـم على الآني ، و ما يمليه ذلـك من مواقف والتزامات : أكبر سمة من سماته،
و عدم تحقق هذه الفضيلة في حيـاة كثير من الناس ، سببه : ضعـف في الخبرة ، أو ضعف في الإرادة ، أو فيهما معا. و مواقفه هنا يثير لدى الناس الدهشة ؛ حيث يجدونه زاهداً معرضاً عما يتقاتلون عليه ، و ربما اتهموه بالعجز أو الكسل أو القصور ، وهو في الوقت نفسه يضـحك في داخله من جهادهم في غير عدو و محاولات قبضهم على السراب !!
داخله ساحـة موارة بالحـركة و النشاط ، فهو لا يكفّ أبداً عن عمليـات
المقـارنة ، و المـوازنة ، و التحلـيل ، و التـركيب ، و الاستنتاج ، و التشذيب ، و الإضافة ، إنها أمواج وتيارات في أعماق المحيط ، أما السطح فإنه هادئ تعلوه السكينة والـوقار .
إن من ملامح الأذكياء سرعة البديهة ، وإطلاق الأحكام ، وسرعة تشكيل المواقف ، لكن من طراز آخر من الناس ، فهو بطيء في تكوين معتقداته ، وصياغة مقولاته ، إذ إنه يملك قدرة خاصة على ضرب كل أشكال المعرفة والخبرة في بعضها بعضاً ، ليخرج في النهاية بزبدة تتميز عنها جميعاً ، لكنها منها جميعاً ! لكن الأيام تثبت أن مقولاته هي بنات عواصف فكرية و شعورية هائلة ، لكنها غير منظورة ! من أهم تجلياته: إدراك حجوم القضايا على وجهها الصحيح ؛ فهو يرى الأشياء الكبيرة كبيرة ، كما يرى القضايـا الصغيرة صغيـرة كما هي ، و تقدير القضايا بصورة صحيحة من أخطر المشكلات التي ظلـت تواجه البشر على مدار التاريخ ،وهل
دمرت الحضارات إلا من وراء مشكلات وأخطاء ظنها الناس تافهة ، فإذا هـي عواصف هوجاء تأتي على كل ما تمر عليه !!!!!! فهو رجل يرى ما قبل اللحظة الراهنة ، و يستشرف ما بعدها ، وهو لا يرى نسقاً أو نظاماً من التداعيات الترابطية ، لكنه يرى أنساقاً و نظماً تتوازى ، وتتقاطع ، وتتصادم ، إنه يحس بالعاصفة قبـل هبوبها ، فيحذر شعبه و ينذرهم . كلـنا نرى القضايا بحجمهـا الحقيقي ، لكن بعد فوات الأوان ! ، و بعد أن نكتوي بنارها ، و تفوتنا فرصها الذهبية ،لكنه يأتي في الوقت المناسب ، كما قال سفيان الثوري: (( إذا أدبرت الفتنة عرفها
كل الناس ، و إذا أقبلت لم يعرفها إلا العالم )) !……. فهو أهـل الاختصاص الذيـن أذهبوا العمر في تفتـيق المعرفة حول شيء بالغ الصغر ، أو حول (لا شئ) : فهؤلاء جنود التقدم العلمي ،……… ترتفع درجة المرارة في داخلنا على مقدار مافقدنا الاستماع اليه و النزق و البرم الذي نبديه حول كل ما لا يعجبنا سببه جهلنا بالأسباب و الجـذور و السنن و طبـائع الأشياء ومنطق سيرورتها . أما هو : فإن مرارته لا تنبع من مفاجآت الأحداث و فـواجعها، وإنما من غفلة الناس و استخفافهم بالمواعظ التي ألقيت عليهم ، و نبـهتهم إلى النهايات المحتـومة التي يندفعون إليها دون أي حساب أو تقدير لفداحة الخطب الذي سيواجهونه. ……………….
هذا هو المناضل الاستاذ حميد درويش .