صورة النازحين الكرد من كوباني (عين العرب) وهم يزيلون حاجز الأسلاك الشائكة الفاصلة بين الأراضي السورية والتركية، تذكرنا بجرافات «داعش» وهي تزيل الحدود العراقية – السورية بعد اجتياح تنظيم الدولة لمدينة الموصل بأيام. تدور اليوم حرب ضروس بين الفاعلين، تنطوي في آن معاً على صراع اثني عربي – كردي، وآخر ديني – علماني، وثالث عسكري – مدني.
منذ استيلاء قوات الخليفة أبي بكر البغدادي على الموصل إلى اليوم، يبدو الكرد القوة شبه الوحيدة التي تتصدى لها على الأرض، سواء في العراق أو في سورية. وإذا كانت قوات البيشمركة انسحبت أمام زحف داعش إلى جبل سنجار، فقد تولى المواجهة مقاتلو حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري حزب الاتحاد الديموقراطي PYD وصولاً إلى دحر قوات البغدادي من سنجار ومخمور. واستعاد البيشمركة زمام المبادرة، بعد تجاوزهم الصدمة الأولى، ليحرروا عدداً من المناطق بدعم جوي من طائرات التحالف.
أما في سورية، فوحدها «قوات حماية الشعب» التابعة للفرع السوري لحزب العمال الكردستاني تواجه قوات تنظيم الدولة على الأرض، من غير مساندة جوية تذكر من طائرات التحالف التي تقصف صوامع الحبوب والمحطات البدائية لتكرير النفط شرق البلاد.
نحن إذاً أمام مشهد غريب: الدول المشاركة في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة تدرك أن القصف الجوي والصاروخي وحده لن يحقق أي نتيجة ما لم تواكبها حرب برية على معاقل التنظيم. والطرف الوحيد الذي يخوض هذه الحرب البرية هو القوات الكردية. وفي حين حظي بيشمركة إقليم كردستان بدعم سياسي وعسكري متعدد الجهات، من الولايات المتحدة وألمانيا وإيران وغيرها من الدول، لا تحظى قوات التيار الأوجالاني بأي عطف مماثل. هذا مفهوم بالنظر إلى أن حزب العمال الكردستاني موجود على لوائح المنظمات الإرهابية في المحافل الدولية. ولكن كان من شأن المأساة الإنسانية التي تعيشها بلدة كوباني ومحيطها، وأدت إلى تهجير نحو مئتي ألف مدني إلى تركيا خلال أقل من أسبوع، أن تغير في هذه المقاربة، فضلاً عن «الفلسفة المؤسسة» للتحالف الدولي ضد داعش التي وحدت كثيراً من الخصوم في جبهة واحدة عالمية.
هذا المناخ العالمي الناشئ ضد داعش بوصفها «منظمة من قاطعي الرؤوس» هو الذي يسعى حزب العمال الكردستاني إلى استثماره لمصلحته منذ سنجار وصولاً إلى كوباني، بهدف الخروج من قوائم الإرهاب وتقديم صورة مختلفة عن نفسه. وهذا ما يجعلنا نفصل بين مأساة كوباني الجريحة وبين الحسابات السياسية الضيقة لتيار أوجلان.
كانت هذه البلدة الصغيرة أحد المواقع المبكرة للتظاهرات السلمية التي انطلقت في إطار الثورة الشعبية ضد نظام الأسد، وواظبت على المشاركة في تظاهرات يوم الجمعة طوال أشهر وسنوات، على رغم المآخذ الكردية على النكهة الإسلامية لأسماء كثير من أيام الجمعة، ورفعت علم الاستقلال جنباً إلى جنب العلم الكردي بألوانه المعروفة، إلى أن بدأ تسلل حزب الاتحاد الديموقراطي – الفرع السوري للعمال الكردستاني – إلى البلدة وأخذ ناشطوه بالتضييق على تنسيقياتها المدنية وصولاً إلى إطلاق النار على التظاهرات ومصرع طفل من أبناء المدينة برصاص قوات الحزب. ثم انسحب النظام طوعاً من البلدة، صيف عام 2012، في إطار انسحابه من جميع المناطق الكردية شمال سورية وشمالها الشرقي، وسلمها إلى قوات الاتحاد الديموقراطي تسليم اليد.
منذ ذلك الوقت انتهت التظاهرات السلمية، وتم التضييق على النشطاء المستقلين كما على الأحزاب السياسية التقليدية الكردية وإغلاق مقراتها بالقوة. وبعدما أعلن الحزب إقامة إدارته الذاتية، وفقاً للمنظور الأوجلاني، في ثلاث كانتونات إحداها كوباني، حكم البلدة حكماً ديكتاتورياً فـــظاً رفع شعار «من لا يعجــبه حكمــنا فليــغادر»، وهو شعار فاشي مستقى من تقاليد الاستبداد الكمالي في تركيا، وكان موجهاً – للمفارقة – ضد كرد تركيا بالذات.
ثم جاءت هجمات فصائل من الجيش الحر وجبهة النصرة وأخيراً داعش على مختلف المناطق الكردية، على مدى السنتين الماضيتين، بدعوى تحالف مفترض بين النظام وحزب الاتحاد الديموقراطي، وارتكبت جرائم موصوفة ضد المدنيين الكرد بهذه الذريعة، وبخاصة في معارك قرى تل أبيض والرقة، ربيع هذا العام.
مع هيمنة الوجه الإسلامي على فصائل الثوار السوريين، واندحار نظام الأسد المنسوب للإيديولوجيا البعثية في شمال سورية، تحول التناقض الإيديولوجي الكردي – العربي إلى تناقض كردي – إسلاموي، فبدا الكرد وكأنهم منافحون عن العلمانية، والإسلامويون كأنهم مدافعون عن العروبة التي فقدت رأسها البعثي. وكان هذا التحول ملائماً للتنظير الأوجلاني المتأثر بشدة بالكمالية التركية، وهي عبارة عن علمانية متمحورة حول معاداة الدين ومفهوم سطحي لـ»تحرر المرأة».
على الجانب التركي من الحدود، كان حزب العمال الكردستاني ماضياً في مسار الحل السياسي السلمي للقضية الكردية في تركيا مع حكومة حزب العدالة والتنمية، منذ خريف 2012، وأدت المفاوضات بين الجانبين إلى إعلان عبد الله أوجلان عن نهاية الكفاح المسلح، في 21 آذار (مارس) 2013.
حكومة أردوغان المنخرطة حتى العنق في الأزمة السورية هي التي راحت تتلكأ في تنفيذ التزاماتها في إطار المسار السلمي، مقابل التزام دقيق من قبل «الكردستاني» تمثل في سحب عناصره المسلحة، على دفعات، من داخل الأراضي التركية.
بنت حكومة أردوغان سياستها في الأزمة السورية على دعم التيارات الإسلامية في الثورة بهدف إسقاط نظام الأسد. المعارضة العلمانية التركية، في المقابل، وقفت ضد الثورة وزارت عدة وفود برلمانية من حزب الشعب الجمهوري دمشق للقاء الطاغية هناك. واليسار التركي عموماً رأى في الثورة السورية «مؤامرة امبريالية» لتقويض نظام بشار «المقاوم».
اليوم، في الوقت الذي تقف فيه الحكومة التركية أمام خيارات صعبة بصدد الالتحاق بالتحالف الدولي ضد داعش وكيفية المشاركة في عملياته العسكرية في سورية والعراق، تبقى بوصلتها الأساسية الموضوع الكردي المتمثل بحزب العمال الكردستاني مع فروعه الاقليمية. وكما محا تنظيم الدولة الحدود العراقية – السورية، يمحو الكرد الحدود التركية – السورية في اتجاهين: النازحون المدنيون يتدفقون بعشرات الألوف، والمتطوعون الكرد الأتراك يحاولون الوصول إلى كوباني للدفاع عنها.
نقلا عن الحياة