الدكتور أحمد خليل: ثورة 1925 بين الخلافات القَبَلية والدينية الخلافات القَبَلية:

Share Button

إن القبائل الكُردية التي شاركت في الثورة كانت في الغالب من الكُرد الناطقين باللهجة الزازية، من جبال مناطق ليجَه وهانيs d وچاپاقْچور، إن زازا يسمّون لغتهم [لهجتهم] الخاصة (دِمِلي Dimili)، وهي تشير إلى احتمال صلتها بالدَّيْلَم في شمالي إيران. إن لهجة زازا الكُردية قريبة من لهجة گُوراني Gurani الكُردية التي ينطق بها سكان منطقة سليمانية في شمالي العراق [كردستان الجنوبية]، أكثر من قربها من اللهجة الكُردية في الأناضول المركزية، تلك اللهجة الواسعة الانتشار والتي تسمّى (كُرْمانجي) Kurmanci. وبطبيعة الحال يتكلم كثير من الناطقين بالزازية والكُرْمانْجية كلا اللهجتين، نظراً لأن مناطق إقامتهم كانت متداخلة مباشرة.
وقد أكّد ڤان بروينسّن Van Bruinessen أن معظم السكان الناطقين بلهجة زازا كانوا يملكون قِطَعاً من الأراضي وحيوانات قليلة، إضافة إلى الممتلكات القَبَلية، وبعض القبائل كانت تعيش حالة لاقَبَلية [تفكّك قَبَلي]، وأشار إلى أن هذه الحالة ناجمة إلى حدّ ما عن الاختلاف بين الزعماء ورجال القبيلة، وأنه “كان ثمّة تضاربٌ في المصالح جعل العامّة تمتنع عن المشاركة فيما يطلبه الآغاوات”، ولعل هذا ناجم عن التضامن الشديد القائم بين زازا أكثر مما هو بين الناطقين بالكُرمانجية، وأكثر مما بين أولئك الذين اشتركوا بأكملهم في الثورة؛ وعلى أيّة حال لم يكن الاختلاف بين اللهجات مانعاً من وجود العلاقات الاجتماعية بين الزازا والكُرمانج.
إن الكاتب الكُردي شريف فرات قدّم أحد تفسيرين لثورة الشيخ سعيد، معتمداً على معلومات مباشرة، وذكر أنه من بين ثلاثة اتحادات قبَلية كُردية كبرى في الأناضول المركزية والأناضول الغربية، هي باباكُردي، وكُرْمانْجي، وزازا، لم تشارك في الثورة غالبية القبائل المنتمية إلى مجموعة باباكُردي المقيمة بعيداً في غربي منطقة الثورة. وكان الكُرْمانْج ينقسمون إلى اتحادين قبليين: مِيل Mil وزِيل Zil، ومنهما فقط تشكّل المساهمون في الثورة. وإن معظم قبائل زيل- وهي بُروكان Burukan، ومِلان Milan، وحَسَنان Hesenan، وحَيْدَران Heyderan، وسَمْسي Semsi، وعَبْدُويي Ebdoyi، وجَلالي Celali، ودَقُوري Dakuri (Takori)، وزِرْكان Zirkan، وشاديلي Şadili، وآدَمان Ademan، وتُرولار Torular- لم تنضم إلى الشيخ سعيد، وفي الحقيقة أن معظمهم قاتل إلى جانب الحكومة التركية.
وثمة أيضاً ناطقون بالكُرمانجية آخرون شاركوا في الثورة، هم قبيلة جَبْران Cibran وقبيلة حَسَنان Hasanan، وإن خالد بگ جَبْران كان أوّل رئيس لجمعية آزادي، ويذكر ڤان بروينسّن أنه لا يستطيع أن يحدّد بدقة ما إذا كانت القبيلتان شاركتا بشكل كلّي في الثورة أم لا؟ ويقال إن قاسم بگ، وهو أحد زعماء قبيلة جبران، خان الشيخ سعيد، حينما حاول هذا الأخير النجاة إلى إيران، واتضح أن الثورة لن تنجح، ويبدو على أيّة حال أن قبيلة جَبْران ساندت الثورة بشكل كبير، ووعدت بعضُ القبائل بالانضمام إلى الثورة، لكن حينما اندلعت ظلّوا بعيدين عنها، وأعطوا فقط مساندة بالكلام، أو انضموا إلى التُّرك، ومثال ذلك قبيلة پَنْچِيناران Pençinaran، وقبيلة رَمان Reman، وقبيلة رَشْكُوتان Reşkotan.
وابتداءً من o أبريل/نيسان، ظلّت قبائل شَرْناخ، وجزيرة، وسِيرْت، ومِدْيات، ومناطق ماردين، محايدةً، وإن القبائل القاطنة بين وان وشَرْناخ- وهي مانْكوران Mankuran، وگُودان Godan، وبازْدِما Bazdima، وآلان Alan، و جُورْگان Curgan (Jurgan)، وكارِسان Karisan- لم تنضمّ أيضاً إلى الثورة، وذُكرت ثلاثة أسباب لعدم مشاركتهم في الثورة:
ـ السبب الأول: أن الحكومة التركية رشت زعماء القبائل بمبالغ كبيرة من المال، ووعدتهم بمناصب حكومية بعد القضاء على الثورة.
ـ والسبب الثاني: أن منطقة شَرْناخ، بالمقارنة مع منطقة دَرْسيم، كانت غنية الأراضي والماشية، وإن القبليين فضّلوا “أمن السلام على الخراب الناجم عن الحرب”.
ـ والسبب الثالث: أن قبائل شَرْناخ انتظرت أن تصلها المساعدة من بريطانيا، “وكان الظنّ أن بقية القبائل على طول الحدود العراقية سيأخذون موقع الصدارة منهم”.
والحقيقة أن قبائل شَرْناخ التي لم تشارك في الثورة خفَّضت بشكل كبير رُجحان كِفّتها المحتمَل. إن منطقة شَرْناخ كانت مهمّة جداً بسبب قربها من العراق، وكان الاعتماد على قبائلها قوياً. وقد ظُنّ أنه إذا لم يتلقّ الشيخ سعيد مساعدة من قبائل منطقة شَرْناخ، فإن احتمالات قدرة الثورة على الصمود لن تكون كثيرة، أمّا إذا انضمّت قبائل شَرْناخ إلى الثورة، فإن جميع القبائل المجاورة ستنضمّ إلى الثورة أيضاً، وسيكون من الصعب على التُّرك قمعُ الثورة في مناطق عديدة في وقت واحد، بسبب صعوبة تحرّك القوّات بسرعة كافية، ويبدو ظنُّ قادة الثورة أنه إذا انضمّت قبائل شَرْناخ إلى الثورة فإنهم سيفعلون ذلك بتحريض ودعم من بريطانيا، وفي هذا الحدث العظيم، كان أمل الثوار هو السيطرة على سيواس.
الخلافات الدينية:
ويبدو أن المُخبِر (المصدر المعلوماتي) الذي زَوّد الاستخبارات البريطانية بالمعلومات، وهو أحد الضبّاط الذين ثاروا على التُّرك بعد تمرّد بيت شَباب، كان متأكداً منذ أبريل/نيسان 1924 من أن عروض المساعدات المقدَّمة من المسيحيين في حلب وأَرْضَرُوم ومن الأرمن، كانت قد رُفِضت بحزم، والسبب الذي قدّمه لذلك الرفض هو أن القبائل قلّما تسمح بقبول المساعدة من الكفّار ما دامت تعتقد أنها تقاتل دفاعاً عن دينها. وفي الحقيقة كان أحد التقارير قد ذكر أن مسيحيين من حلب يحملون ثبوتيات بعروض المساعدة إلى الشيخ سعيد، كان التُّرك قد ألقوا عليهم القبض في أورفا وشُنِقوا. وعلى أيّة حال لقد ظُنّ أن تلك المساعدات المقدَّمة من بريطانيا، “أثارت الورع الديني الأكثر تشدّداً”.
إن دوافع الانضمام إلى ثورة كانت أكثر من أن تكون قومية، إنها كانت ببساطة نتيجة مَيْل رجال القبيلة إلى اتّباع زعمائهم وشيوخهم (رجال دينهم) أو آغاواتهم حينما أمروهم بذلك، وقد أراد بعض الزعماء تصفية حسابات قديمة مع زعماء آخرين، وضدّ ممثلي الحكومة التركية.

لهذه الأسباب جميعها، لم تنضم القبائل العلَوية- الكُرْمانجية منها والزازية- إلى الثورة، وهذا كان السبب الرئيسي لنكسة الثوار. إن القبائل العلوية في دَرْسيم كانت قد اكتسبت خبرة كبيرة في قتال الكماليين منذ ثورة كُوچْگِري في الفترة 1920 – 1921، والتي أعلنوا فيها أهدافاً قومية، وهذا أمر من المهم تأكيده.
وقد استمرت الثورات المتقطّعة، وحرب العصابات المنخفضة المستوى، حتى نشوب ثورة الشيخ سعيد، وإن عدم مشاركة العلويين في الثورة، وخاصّة قبيلتَي هُورْمَك ولُولان يعني أنه كان باستطاعة القوّات التركية المرور من أراضيهما أو بقربها دون أية اشتباكات، كما أن قلة مشاركة العلويين في الثورة ضيّق بشكل كبير المناطق التي كان على التُّرك مهاجمتها واحتلالها وفرْض الأمن فيها. وجدير بالذكر أن قبائل زازا والقبائل الكُردية السُنّية الأخرى لم تبادر إلى مساعدة الكُرد العلويين في دَرْسيم؛ حينما أشعل هؤلاء لاحقاً ثورة (1937 – 1938). إن عدم دعم العلويين للثورة يعني أن ثورة الشيخ سعيد كانت ثورة بقيادة سُنّية ضدّ دولة سُنّية اعتنقت برنامج العلمانية الذي دافع عنه الكماليون.
لقد كان اقتصاد المناطق التي اندلعت فيها الثورة ضعيفاً، إن الحرب العالمية الأولى سبّبت كثيراً من الخراب، وإن الأقلّية الأرمنية غادرت، وكانت التجارة في معظمها قائمة على المقايضة، وإن سكّان بعض القرى كانوا يُنتجون التَّبغ الذي هم أنفسهم ما كانوا يستعملونه، وكانوا يقايضونه ببضائع أخرى.
وكانت المجاعة منتشرة، وإن كثيرين من الشباب كانوا قد جُنّدوا في الخدمة العسكرية، وقُتلوا في الحرب العالمية الأولى، وهاجر الباقون إلى المدن الكبيرة في غربي الأناضول بحثاً عن العمل، وكان معظم الثلاثين ألف كُردي في إستانبول من قبائل وقرى زازا، وإن تبعثر القرى الصغيرة، وضعف قوة الملاكين الكبار، سمح بوجود قليل من التشارك بين الفلاحين العاملين عند كبار الملّاكين وبين السلطات الحكومية. إن هذا الوضع سمح لشيوخ الطريقة النقشبندية بأن يقوموا بدور مهيمن في حلّ الخصومات، وأن يكون شيوخ المنطقة التي اندلعت فيها الثورة ذوي تأثير، وكان الشيخ سعيد هو الأكثر نفوذاً بينهم.
انقسامات الفلاحين وسكان المدن:
كما أن الكُرد غير القبَليين المقيمين في السهول المحيطة بدياربكر لم يشاركوا في الثورة، إنهم كانوا مُذعِنين لسيطرة كبار الملاك، وقد لاحظ أحد العلماء أن الشيخ سعيد لم يدعُ الفلاحين إلى الثورة، لقد اعتقد الرجال القبَليون أن الفلّاحين لن يكونوا ذوي فائدة كمقاتلين، وظلّت ثورة الشيخ سعيد قبَلية الطابع. لقد كانت غالبية سكّان مدينة دياربكر من الكُرد في سنة 1925، ومع ذلك لم يشارك أحد الكُرد البارزين من سكان دياربكر في الثورة، إن أحد أفراد أسرة جميل پاشا زاده- واسمه قاسم Qasim غادر المدينة في فبراير/شباط، قبل هجوم قوات الشيخ سعيد في 29 فبراير/شباط.
وبينما كانت الحامية التركية القوية، وجهاز الاستخبارات، في دياربكر، تنكّل بالناشطين في الثورة، حتى مع تخفيض الوجود التركي، لم يكن من المحتمَل أن يعرّض الوجهاء وأبناء الطبقة المتوسطة مناصبهم للخطر بالانضمام إلى قوات قبَلية يقودها شيوخ دين، أو قوى غير موثوق بها من القومية الكُردية؛ بالنسبة إلى هؤلاء كان الكفاح من أجل الفخر القومي، والحقوق المدنيّة، وشروط اقتصادية أفضل، شيئاً، وكان التصدي لجيش تركي شيئاً آخر.

لا أحد من الطبقات الدنيا ومن طبقة العمال في دياربكر، أو في المدن الكبرى الأخرى، في منطقة الثورة، شارك في الثورة، ولا شك في أن بعضهم كان راغباً في انتصار الثورة، لكنهم لم يلتحقوا بصفوفها، وإن قادة الثورة كانوا يعلمون بوضوح أنهم لن يتلقّوا مزيداً من المساعدة، وكان واضحاً أن جهود تنظيم الطبقات الدنيا، أو حتى نشر الدعاية، كان في مؤخِّرة جدول أعمال منظّمي الثورة، إن أعداد هذه الفئات وتأثيرها في الثورة كان قليلاً.
لقد كان تنظيم جمعية آزادي سرّياً، وإن الأحداث كانت تتحرك بسرعة منذ تأسيسها سنة 1921، وعِلاوة على ذلك، كانت الاستخبارات التركية على أُهْبة الاستعداد دائماً، إن جميع هذه الحقائق خفّفت من الانطلاقة الشاملة، وخاصّة في الوقت الذي كان فيه الجهل بالقومية الراسخة وكان فيه الفقر يفتكان بالفلاحين، أو بالطبقات الدنيا.
ولم ينقسم فقط الفلاحون والطبقات العاملة التي كانت صغيرة، وإنما كانت القبائل أيضاً منقسمة على نفسها، نتيجةَ العداء القبَلي التقليدي، ولم يكن ذلك الانقسام القبلي مقتصراً على الانتماءات السُنّية- العلَوية، وإنما كان ناجماً أيضاً عن العداء القبَلي التقليدي. إن الناس الذين كانوا قادرين وحدهم على التغلّب على تلك الاختلافات- على الأقلّ بشكل مؤقَّت أو جزئياً- هم شيوخ الدين.
وقد ناقشنا سابقاً كيفية وصول الشيوخ إلى هذه المكانة القوية في كُردستان بعد أن قامت الدولة العثمانية بتدمير الإمارات الكُردية سنة (1847). ويبدو أن وجود شيوخ كلا الطريقتين النَّقشبندية والقادرية كانوا قد أصبح ضرورياً، وأصبحوا من ثَمّ أقوياء في تلبية جميع الحاجات الكُردية في المجالات السياسية والدينية والمادية.

18 – 7 – 2015
*توضيح: هذه الدراسات مقتبسة من كتابنا المترجم ” تاريخ الكفاح القومي الكُردي 1880 – 1925″ المنشور عام 2013. والعناوين من وضعِنا.

Share Button

عن PDPKS

x

‎قد يُعجبك أيضاً

صدور العدد الجديد 648 من الديمقراطي

صدر العدد الجديد 648 من جريدة الديمقراطي التي يصدرها الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، ...