سوريا كانت رهينة حزب لم يعرف يوماً أنه مسؤول عن شعب يستحق الحرية. استعلى هذا الحزب عن طريق إنقلاب عسكري ” سمي بثورة ” لما لهذه التسمية من معانٍ عظيمة, كون الثورة تُقام على الظلم أو ضد إستعمار يستعمر شعباً في بلد مُحْتَلْ.. وبالتالي, فإن الثورة تحمل مشروعاً تحررية وتنموية لإخراج البلد من تحت نير الإستبداد أو الإحتلال, ومن ثم يتم إرساء قواعد لنظام يكون الشعب مرجعيته بطريقة ديمقراطية دستورية للحفاظ على حرية الشعب وكرامته.. كل ذلك لم يتم مع ” ثورة البعث ” بل بعكس ذلك تم إمتلاك البلد من قبل زمرة سميت نفسها بالثورويون والمناضلون من أجل تحقيق ” الحلم العربي في الوحدة والحرية ” أي أن حرية السوريين إرتبطت بتحقيق ذلك الشعار والرسالة التي كانت ترددها المدارس والجيش في كل صباح ” أمة عربية واحدة * ذات رسالة خالدة. أما الأهداف فكانت هكذا يتم ترديدها: أهدافناـ وحدة حرية إشتراكية “. أي أن تحقيق حلم السوريين كان مرتبطاً مع تحقيق تلك الشعارات التي كانت من المستحيل تحقيقها, وبالتالي, فإن عدم تحقيقها يعني بأن الثورة مستمرة ” حسب فلسفة البعث ” إلى جانب إستغلال القضية الفلسطينية ” كقضية مركزية للشعب العربي ” وجعل نفسه وصياً على هذه القضية, وكذلك على مجمل قضايا الشعب العربي في الحرية والإشتراكية والوحدة ( يقيناً منه أن هذه الشعارات لايمكن تحقيقها ) إلا أنه أخذها وسيلة لإستمرارية السلطة من جهة, ومن جهة إتهام معارضيه بالخيانة للقضية العربية وربطه مباشرة بالرجعية والإمبريالية ومن ثم تقديمه إلى المحاكم العرفية التي تم تأسيسها مع إستلامه للسلطة وإعلانه لقانون الطوارىء في البلاد.. حتى أن عملية التنمية والبناء وتقديم الخدمات للمواطنين تم إرتباطها بتلك الأهداف, وبالتالي تم تخصيص 80% من واردات الدولة لمؤسسة الجيش والقوات المسلحة, وإخضاع موارد البترول لميزانية الأمن القومي التي لايمكن الإطلاع عليها كونها كانت من الأمور السرية للغاية. يعني ذلك, أن المواطن حُرِمَ من الخدمات المستحقة وكذلك من التنمية التي هي بالأساس من واجبات الدولة أن تقوم بها ببرنامج مدروس لتأمين فرص العمل للمواطنين والتقليل من نسبة العاطلين عن العمل.. إلا أن في سوريا, كانت الدولة معفية من كل هذه الواجبات, إضافة إلى السماح للموظفين في الدولة ممارسة الفساد عن طريق القبول بقبض الرشوة من المواطنين لقاء تأمين طلباتهم وتسيير معاملاتهم في جميع مؤسسات الدولة ( إلى أن وصلت هذه الحالة إلى مؤسسات الجيش والقضاء ), حيث كان ذلك مدروس بدقة ( لإنتشار الفساد والتفسخ في بنية المجتمع من أجل التسهيل لحكمه وإخضاعه تحت السيطرة في جميع الظروف ) هذا إلى جانب ملاحقة النخبة من المجتمع وإبتزازها إلى أن يتم إنتزاع القيم من رأسها أو تغييبها بصور متعمدة أو تهجيرها من البلد.. طوال خمسين سنة كان البعث يمارس هذه السياسات تجاه الشعب السوري.. لواستطعنا أن نُقَيِمَ الشعب السوري مرحلة ما قبل الثورة بسنوات قليلة لرأينا كالتالي: فئة الموظفين الذين يقبضون رواتبهم من الدولة مليون و 200 ألف موظف عدا عن الجيش الذي يُقَدَر بـ 400 ألف إضافة إلى المخابرات العسكرية… هذه الفئة تم إفسادها بمنهجية من خلال دفعها لكسب أموال غير مشروعة عن طريق الرشوة, حيث تقدر المستفيدين من هذه الأموال أكثر من عشرة ملايين نسمة لو اعتمدنا أن متوسط عدد العائلة تتألف من خمسة أشخاص وبالتالي, فسيكون حوالي مليوني عائلة عُرضة للفساد والتفسخ ( إلا القلة القيلية منهم كانوا يحافظون على طهارتهم من خلال رفض الرشوة, وكانوا يعتَبرون في الوسط الإجتماعي من قاصري العقل ). فئة التجاروالحرفيين على كافة المستويات, تم تفسيخهم عن طريق التعامل معهم خارج القانون ومضايقتهم عن طريق توقيف تسيير معاملاتهم إلا بالدفع مقابل ذلك.. وبالتدريج كسبت هذه الفئة ثقافة التفسخ ومارست بالمقابل معاملة المستهلك بنفس الطريقة عن طريق الإستغلال والإحتكار لكسب المزيد أولاً وتعويض ما تقدم من رشوة وأتاوات لرجال الدولة, وبالتالي, إكتسبت ثقافة الخروج عن القانون وممارسة التجارة الغير شرعية والغش على أوسع نطاقه إلى جانب تجارة الربى والفائدة الغير قانونية.. وبالتالي تؤثر هذه الفئة على ثقافة الناس بشكل خطير وتدفعه نحو التهور. فئة العمال والفلاحين.. الفئة التي كانت تتحمل أثقل أعباء نتيجة التفسخ والفساد الذي طال تلك الفئات, وهي التي كانت مضطرة أن تعمل ليل نهار لتغطية مصاريف معيشته إضافة إلى ما تلحقه من أتاوات ورشاوي الموظفين, وبالتالي, فكانت وجهتهم نحو الهجرة إلى خارج البلد من استطاع اليها سبيلا. النخبة المثقفة والسياسية ” باختصار شديد غُيِبَت عن المجتمع بمنهجية صارمة, فإما تم تهجيرها أو تدجينها ” من خلال ملاحقتها وإتهامها على أنها مرتبطة بالأجنبي واعتقالها من دون تقديمهم إلى المحاكم يتم توقيفهم لسنين إلى أن يتم القضاء عليه وتحطيمهم نفسياً, وكذلك عوائلهم التي لاترتاح من المسائلات المتكررة من قبل أجهزة المخابرات المتعددة والتي بلغت في الآونة الأخيرة إلى ستة عشر فرعاً قد لايعرفها المواطنين إلا القيليل منها. وسط هذه الحالة التي استمرت خمسين سنة, أي ثلاثة أجيال ترسخت ثقافة الفساد والإبتعاد عن الوطن ” كون الوطن إختزل في شخصية القائد الذي قاد مرحلة الفساد ” وبالتالي, فإن النفور من القائد يعني النفور من الوطن.. لذلك تشكلت ثقافة لدى المواطن الذي عاش طول عمره متوتراً هارباً من مواجهة أي موظف في الدولة تفادياً ” للدفع ” أو رجل مخابرات تفادياً ” لتحقيق جائر مع الضرب والتعذيب من دون أي ذنب فقط من أجل أن يكلفه بالدفع ليتم إخلاء سبيله ” فهل يبقى لدى هذا المواطن ما يرتبطه بالوطن؟ ( وماشاء الله على المخبرين الكاذبين ما أكثرهم وما أشطرهم برفع التقارير حتى على أقرب المقربين منهم ).. ماذا أنتج هذا الحزب غير التفسخ المجتمعي, ومجتمعاً يهرب من وطن لطالما إختزل الوطن بقائد مفسدٍ متفسخ لايرضى إلا بالمتفسخين والمفسدين. وفي نظر البعث وقيادته أن كل من يرضخ ويقبل ثقافة الفساد هو مواطن شريف.. وبالتالي, لم يبقى إلا القلة القليلة التي كانت تعمل من أجل الحفاظ على القيم ومعاني الوطن والوطنية, وهؤلاء كانوا ملاحقين طوال حياتهم ومن المغضوبين عليهم ومحرومون من أية منفعة تأتي من الدولة. ماذا تنتظرون أن تنتج ثورة وسط هكذا مشهد غير صورة مشوهة؟ كل المتفسخين وقفوا إلى جانب النظام, والكثير من المفسدين إلتحقوا بالثورة لإفسادها.. ولما كانت ثقة الناس ببعضها مفقودة, كون المفسدين ارتقوا إلى قيادة الثورة لإلتقاط المال السياسي الفاسد, تم طرح مشروع طائفي والإعلان عن إسقاط الرئيس الذي ينتمي إلى الطائفة العلوية لإشعال نار الطائفية التي لايمكن إخمادها إن إنتشرت على الساحة ووصلت إلى كل بيت.. وهذا ما جرى, ليتثنى للدول الطامحة الطامعة التدخل وقطف ثمار دمار البلد والنار التي أحرقت الأخضر واليابس, والتي أدت إلى تهجير الملايين.. فماذا بقي من شعار الثورة ( في الحرية والكرامة)؟ أعتقد أننا توهمنا, ومستمرين في وهمنا على أن ثورة لاتزال مستمرة وستنتصر. ستنتصر على من؟ ولمن؟ البلد أصبحت في عداد الإنتداب الأجنبي وبقرار من الرئيس أولاً.. وبموافقة المعارضة ثانياً.. وبتدفق الإرهاب والإرهابيين ثالثاً.. وماذا بعد؟ خمسة عشر مليون سوري مُهَجَرْ. وفي الداخل هم من يتقاتلون بالوكالة من الدول.. والنظام لايزال يتمسك ” بطنبوره الذي لم يعد يصدر أصواتاً وأنغاماً كل صباح يطربنا بتلك الشعارات الواهمة الكاذبة الخادعة “. ياحيف على البلد الذي ضاع شعبه ولم يبقى له من يبكي عليه. أحمـــــد قاســـــــم 2\6\2017