كالمعتاد, كلما تحركت المعارضة في أية دولة من الدول التي تقتسم بينها جغرافية كوردستان ( أرضاً وشعباً ) نرى أن للكورد حضور متميز وسط تلك الحراك ” كجزء من المجتمع, وكقومية مضطهدة تطمح إلى الحرية في أية فرصة قد يستغلها, لطالما أنه الأضعف في مواجهة أنظمة دكتاتورية شوفينية تمتلك كل مقومات القوة في البلاد, إلى جانب وقوف القسم الأكبر من القوميات الحاكمة إلى جانبها في إتباع سياسة ممنهجة لتهميش الكورد وصهره في بوتقة قومية الحاكم , مع غياب الإهتمام الدولي بهذه القضية كقضية شعب له كل الحقوق كمثيلاتها من الشعوب التي نالت إستقلالها “.
بالأمس القريب, كانت تجربة إخواننا في كوردستان العراق مع التجاذبات الدولية وسط صراع إقليمي على المصالح مريرة ومأساوية مع نهاية ثورة أيلول بشكل تراجيدي على خلفية إتفاقية جزائر بين العراق وإيران في 6آذار1975. وكانت ( ولا تزال ) الفعل الإقليمي مؤثر في تطورات هذه القضية مع التطورات الحاصلة في المنطقة, وبالتالي ينعكس الدور الإقليمي المؤثر (على الحركة السياسية الكوردية) سلباً على الموقف الدولي من قضية شعب يحلم إلى الحرية. وكذلك, تفرض على أهل القرار في الحركة السياسية أجنداتها تلبية لتحقيق مصالح الدول الفاعلة إقليمياً, ونيابة عنها في أغلب الحالات تعمل بعكس ما هو الواقع الذي من خلاله يمكن العمل بالممكنات لتحقيق مصلحة الكورد القومية في حدود الممكن المعقول.
أن المسألة الكوردية في سوريا باتت أكثر تعقيداً من مثيلاتها في الأجزاء الأخرى” لطبيعة الحكم الذي يواجه المعارضة بالحديد والنار, تجاوزت كل المقاييس وفعل الدكتاتوريات التي إنقلب عليها الشعب بفعل ثوري لينال حريته وكرامته”. حيث أن التدخل الخارجي من أطراف عدة تتناقض مصالحها في حقيقة الأمر على مستقبل سوريا والشكل الممكن إعتماده لنظام الحكم الذي بإمكانه تحقيق توازن بين مصالح الدول الإقليمية, وكذلك مصالح الدول الفاعلة في المنطقة ( كولايات المتحدة الأمريكية, وروسيا, إلى جانب الصين والإتحاد الأوروبي ) مما يشكل هذا المستحيل عبئاً ثقيلاً على مسارات الثورة والقوى الفاعلة على الأرض, علاوةً عن أن قوى الإرهاب باتت من أولى أولويات الدول الكبرى لمحاربتها, خوفاً من إنتقال أخطارها إلى أوروبا وأمريكا مع موجات المهجرين الذين يجتازون حدود دولٍ هرباً من الموت. لتبقى أهمية تغيير النظام تحتل المرتبة الثانية بعد القضاء على الإرهاب.
في ظل هذه التجاذبات الدولية, وسيطرة شكل الحرب الطائفية على المشهد العسكري على الأرض, إلى جانب تشتت وضعف المعارضة الليبرالية التي كانت من المؤمل أن تكون بديلاً للنظام, وكثرة القوى المتحاربة والمختلفة في الرؤى والأهداف, رأت الدول الإقليمية ضالتها لتقود الأزمة والصراع على الأرض معاً ” بالتزامن مع تدخل دولي واضح من قبل أمريكا وروسيا, سعياً منهما لإدارة الأزمة دبلوماسياً وإعلامياً, مع تسخير السلاح على الأرض تحت غطاء الحرب ضد الإرهاب “. وبذلك تشكل محورين متنافسين على مستقبل سوريا ( محور أمريكي تتبعها أوروبا, ودولٍ خليجية وتركيا التي ظهرت خلافاتها مع أمريكا في الآونة الأخيرة… ومحور روسي تتبعها النظام في دمشق وإيران والصين, بالإضافة إلى العديد من أنظمة الإستبداد التي ورثتها الحرب الباردة ). لكن من المؤسف جداً أن يكون قدر الشعب السوري هو الإلتحاق” بالمجهول “.
قلت في سابق من مقالاتي ” أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تبحث عن الحلول السلمية وآليات لإيقاف الحرب الدائرة التي تأكل الأخضر واليابس, بل تسعى إلى إيجاد أسباب لإستمرارية الأزمة وآليات لإدارتها, إلى جانب السعي الروسي للحفاظ على مرتكزات النظام وعلى رأسها بشار الأسد “. ومن دون أدنى شك, أن للولايات المتحدة حجج كثيرة للإستناد عليها ( من خلال التمسك بحقوق الأقليات العرقية والمذهبية, وبالتالي كان من السهل عليها دغدغة مشاعر تلك الأقليات من خلال تحريك العديد من المستشارين في البيت الأبيض والبينتاغون, وكذلك الأسماء اللامعة من الإعلاميين لطرح مشاريع بهذا الإتجاه, ” على أن سوريا مقبلة للتقسيم” وأن عهد سايكس بيكو قد إنتهى العمل به, وستكون هناك خارطة جديدة للمنطقة ). من هنا كانت البوابة التي تحركت من خلالها المعارضة المشتتة مع تشتيت رؤاها ومشاربها, وكذلك الحركة الكوردية التي باتت تستنير من خلال تلك المشاريع التقسيمية لسوريا مستقبلاً وفضلت أن تتعامل معها بإيجاب ” عسى أن تكون بداية لخلاص شعبها من الظلم والإضطهاد ” إلى جانب فقدان المعارضة للرؤية الواضحة والمطمئنة للشعب السوري في مستقبله المعهود. وكأنها ” في أحسن الأحوال ” تسعى لنظام ديمقراطي مركزي تكون حقوق المواطنين متساوية في ظل القانون وتداول السلطة من دون إعطاء أي إعتبار لتشكيلة الشعب السوري القومية والمذهبية. من دون أن تدري أنها بتلك الرؤية ترمي الأقليات في أحضان أهل المشاريع التقسيمية. أعتقد أن رؤية المعارضة هذه نابعة من ثقافة البعث الذي أشبع الفكر العربي بشوفينية عمياء, أخطر بكثير من تلك التي يتصورونها بأنها نهايةً ” لعزة العروبة “.
على كل حال, مادام الموضوع يتناول المسألة الكوردية, أعتقد أن الكورد أيضاً ” هرباً من الظلم والإضطهاد, إختاروا طريقاً إلى اللامنطقي والمعقول “. لأن من السابق لأوانه أن نصدق بأن خارطة سايكس بيكو قد إنتهى مفعولها, في وقت أن الحدود مع تركيا على أشده من حيث الحراسة والمراقبة, وكذلك بين سوريا والأردن. فلا يمكن أن نعتمد على ما أصاب من فلتان على حدود سوريا والعراق على خلفية ظهور ” داعش ” الطارئة والمؤقتة كأداة لإدارة الأزمة, وليست كصاحبة مشروع في بناء الدولة. وأن من يتوهم بأن سوريا والعراق باتت من الماضي, فإنه ينزلق إلى مشروع أمريكي لم تتبين معالمه حتى اللحظة, وذلك مع تماشيها بخط متوازٍ لرؤية روسيا المستقلية للمنطقة ” وقد تتلخص في تغيير سلوك الأنظمة تجاه شعوبها وبالتدرج, لإعطاء المزيد من الحريات, من دون مد الأيدي إلى الخارطة في المنطقة ” وقد تذهب أمريكا أكثر من ذلك في مستوى تغيير الأنظمة من دون تغيير الخارطة على المدى المنظور.
من هنا, ومن دون قراءة صحيحة للواقع وللمعقول, أعتقد أن تشتيت الحركة الكوردية بين الرؤيتين, على أن التقسيم آتٍ لامحال, فإنها تستبق الزمن وتحاول كل جزء التمسك بمقاليد السيطرة على المناطق الكوردية ” لابل الإقليم الكوردي ” الذي يعتبره البعض على أنه ممتد من ديريك إلى البحر الأبيض المتوسط من دون إنقطاع. وهو محل أطماع مستحقة كونه من أغنى مناطق سوريا على الإطلاق. وبالتالي يجب التمسك به قبل تنفيذ التقسيم كما تعهد لنا مناظرون أمريكان. وعلى هذا الأساس إنقسمت حركتنا السياسية بين ( المجلس الوطني الكوردي في سوريا والذي يديره الحزب الديمقراطي الكوردستاني_سوريا والتابع للحزب الديمقراطي الكوردستاني_عراق الذي يترأسه مسعود البرزاني , وحركة المجتمع الديمقراطي التابعة لحزب الإتحاد الديمقراطي الجناح السوري لحزب العمال الكوردستاني ) مع بقاء عدد من الأحزاب خارج الإطارين بعيدين عن التنافس.
حقيقةً, أن التنافس بين هذين الإطارين على السلطة لإدارة المناطق الكوردية أو ( الإقليم الكوردي كما يسمونه ) ” إطار يسعى إلى ضم الإقليم إلى الإقليم الجنوبي ( إن حصل التقسيم ) وفقاً لتبعيته, والآخر يسعى إلى الإستفراد به لحين تشكيل إدارات ذاتية في الجزء الشمالي لكوردستان (تركيا ) ومن ثم ضمه إليها, عقدت وضع الحركة الكوردية في سوريا, وجعلتها مهمشة في البعد السياسي والدبلوماسي الوطني. حيث كان من الأجدر أن تتحد كافة أطراف الحركة على رؤية مشتركة وواضحة بعيداً عن الأجندات من خارج الحدود حتى وإن كانت من طرف أشقائنا من كوردستان العراق أو تركيا, كونهما لا يشاركان معنا في الظروف الموضوعية والتاريخية والذاتية, وبالتالي في كثير من المجالات تختلف مصالحهم مع مصالح شعبنا في كوردستان سوريا. صحيح أن من واجبهما مد يد العون إلينا كأشقاء, ولكن أن نكون تابعين لهما مقابل الدعم أو المساعدة, فهذا الذي لا يمكن قبوله, كونه ينافي ويتعارض مع جوهر قضيتنا في كوردستان سوريا.
لقد ناضل حركة شعبنا طوال عقود من أجل الديمقراطية في البلاد وتحقيق حقوق شعبنا في إطار وحدة سوريا, مقابل محاولات النظام في دمشق وبشكل مستمر ربط الحركة السياسية الكوردية إما بأحد أطراف الحركة الساسية الكوردية في العراق أو بالحزب العمال الكوردستاني في كوردستان تركيا, وذلك لزرع بذور الفتنة, وإيجاد مبررات لقمع حركتنا السياسية بتهمة الخيانة والعمل لصالح الخارج, أو تهمة الإنفصال في أحسن الأحوال.. وهذا ما صدقته المكونات الأخرى من الشعب السوري, كون أشقائنا في كوردستان العراق وتركيا أيضاً سعيا جاهداً لتحقيق مآرب النظام من خلال ربط الأحزاب بهما عضوياً حتى اللحظة, مما أدى إلى فقدان شخصية مستقلة لحركة شعبنا في كوردستان سوريا, وإظهار حركتنا كحركة تابعة اليوم إما للحزب الديمقراطي الكوردستاني بزعامة الرئيس مسعود البرزاني, أو لحزب العمال الكوردستاني تركيا بزاعامة عبدالله أوجلان, وبالتالي كان من الطبيعي أن تتوجه القوى والدول المعنية بالأزمة السورية إلى الطرفين في هولير وقنديل, من دون إيلاء أي إهتمام ( بالقامشلو ), وعليه ينسحب الحال على المعارضة السورية, التي بدورها تتوجه إلى هولير عن أي تحرك باتجاه الكورد, تماشياً مع العلاقات الوطيدة بين تركيا وإقليم كوردستان العراق, حيث أن تركيا جزءٌ من المحور الأمريكي وداعمة للمعارضة. أما قنديل فوجهتها إلى طهران وموسكو, وبالتالي بإن القوات التابعة لها في كوردستان سوريا لا تعارض النظام في دمشق في أحسن الأحوال.
وسط هذه التجاذبات, تفتقد المعارضة إلى رؤية واضحة لمستقبل شعبنا الكوردي الذي عاني من أبشع صور الإضطهاد العرقي. فكان من الأولى لها أن تتوجه نحو الكورد لمناقشة قضيته القومية, لطالما أن هذه القضية باتت تأخذ بعداً دولياً وإقليميا, وهي في محل إستثمار وإستخدام لصالح أجندات قد تتعارض في كثير من الأحيان مع مصالح الشعب السوري بشكل وعام ومصلحة الشعب الكوردي في كوردستان سوريا بشكل خاص. وأن موقف المعارضة السورية ( وخاصة الديمقراطية منها ) تجاه قضية الشعب الكوردي الذي لايرتقي إلى مستوى هذه القضية, يدفع بالكورد نحو التمسك بالآخر الذي يدغدغ مشاعره, ويتعهد له على أنه سيلبي مطالبه في تحقيق أحلامه لطالما آمن بشرعيته وناضل من أجل تحقيقه طوال عقود في مواجهة الإستبداد والظلم والإضطهاد… مع التأكيد له على أن سوريا في زوال, وخارطة الشرق الأوسط الجديدة باتت أقرب إلى الواقع. مقابل ذلك, فالمعارضة السورية ليست جاهزة حتى اللحظة مناقشة هذه القضية, تاركة إلى ما بعد تغيير النظام أو إسقاطه. وبذلك تخلق الحجج والمبررات لتلك القوى التي ترتبط بعلاقاتها بأجندات مختلفة, وبالتالي تترك الحركة الكوردية مشتتة بين تلك الأجندات. فكان من الأجدر أن تتبنى المعارضة قضية الشعب الكوردي كقضية قومية ووطنية, وتطمئن الكورد على مستقبله على أنه سيكون صاحب دولة مع مستقبل سوريا القادم, لا أن تزرع الشكوك, وتضعه في موضع الريبة على أن المعارضة ليست بأحس حال من النظام كما ( يُدَعى ). أعتقد أنه, آن الأوان لأن تراجع المعارضة من سياساتها بشكل عام تجاه مستقبل سوريا وخاصة تجاه الكورد وقضيته القومية.
جدير بالذكر في هذا الموضوع, على أن الحزب الديمقراطي التقدمي الكوردي في سوريا بزعامة الأستاذ عبدالحميد درويش, عند إتخاذ قراره الإنسحاب من المجلس الوطني الكوردي في سوريا مؤخراً, إنطلق من هذه المباديء القومية والوطنية, ساعياً إلى تأسيس شخصية مستقلة لحركة شعبنا الكوردي في سوريا, والتوجه نحو القوى الوطنية الفاعلة لعقد مؤتمر وطني شامل, تناقش فيه الأزمة السورية, والسبل الممكن إتباعها لوقف الحرب, والإتفاق على مستقبل سوريا وشكل النظام الذي يجب أن تتوافق عليه كل مكونات الشعب السوري آخذين مصلحة الشعب السوري ومكوناته القومية والدينية والمذهبية منطلقاً لتبني ذلك النظام.
أحمــــــــــد قاســــــــــم
28\6\2016