من دون مقدمات, كانت الثورة أملاً لشعب عانى الأمرين من دست الحكم المستبد طوال خمسة عقود ونيف من عمر سوريا. من
جهة دفع الحكم بسوريا نحو التصحر السياسي والأخلاقي من خلال منع السوريين بالتكلم والمناقشة والتحاور في السياسة والإعلام, ومن جهة نشر الفساد في مؤسسات الدولة أفقياً وعمودياً إلى أن وصل بالبلاد إلى أدنى مستوى من التطور الإجتماعي والإقتصادي, ناهيك عن إنتشار الفقر بين طبقات المهن الحرة والعمال والفلاحين الذين حيرتهم الحياة وخوفتهم من المستقبل المجهول في ظل تدني مستوى المعيشة وفقدان فرص العمل من ناحية, ومن ناحية أخرى سيطر عليهم الشعور بالإختناق مع خنق الحريات العامة في ظل إنتشار القوى الإستخباراتية التي مهمتها مراقبة حركات الناس على جميع المستويات. لقد ظلم النظام البعثي في دمشق بشكل عادل كافة مكونات الشعب السوري بمنهجية مدروسة وبإتقان.. إستفاد من طبيعة الشعب السوري ومكوناته المختلفة ( المذهبية والقومية ) من خلال بث روح التنافر وإبعادهم عن روح الإنسجام والعيش المشترك من خلال نزع ثقافة الثقة بين المكونات وإبقائهم ضعفاء فاقدين الإرادة الموحدة وإبعادهم عن الطموح الذي يدفع بهم نحو التفكير في إدارة البلاد أو إنتقاد الحكم وطبيعته والمطالبة بالتغيير أو إصلاح مواقع الفساد التي نخرت كامل مؤسسات الدولة وأوصلت بها إلى حالة ( لا دولة ) مع السلطة الموازية التي نشأت مع تنامي دور المخابرات و ( الشبيحة ) التي لاتخضع لأية سلطة قانونية, ومن نتائجها فقدت الدولة هيبتها وركائزها الحقيقية… لذلك, كان لابد من ثورة شعبية تواجه هذه المرحلة من السقوط والتدني لدولة كانت يجب أن تكون لشعب يحميها, لاأن تكون لسلطة تفصل بينها وبين أبنائها وتجعل من أبنائها (غرباء متهمون وملاحقون ) في دولتهم لأي سبب . إندلعت الثورة, وانتشرت على مساحة الوطن مع إنتعاش الأمل لدى البائسين في الوطن وهم الأغلبية الساحقة من الشعب ومن كافة المكونات. لكنها في لحظة ما تعرت الثورة, وسحبت عنها الغطاء السياسي مع تخلف النخبة السياسية في البلاد, والتي كانت بالأساس متشرزمة ومبعثرة ومنكسرة من الداخل, وبالتالي, تراجعت عن تحمل مسؤولياتها التاريخية والثورية خوفاً من الفشل والإنتكاس الذي سيدفع بالنظام نحو الإنتقام بوحشية كل من قال (لا) للإستبداد, كونها كانت تدرك بطبيعة النظام على أنه لايمكن تغييره بالعمل السلمي, وأن العمل العسكري في ظل ظروف المرحلة التاريخية ومن دون تدخل دولي لايمكن تحقيق الأهداف المرجوة.. ولأسباب عديدة أخرى مع إستقواء النظام بروسيا الإتحادية وإيران وحزب الله اللبناني إستطاع النظام ومناصريه إدارة الأزمة والحرب والدبلوماسية بمهنية فائقة, إضافة إلى ذلك, إنتشار قوى الإرهاب التي طغت على الساحة واحتلت أكبر مساحة من سوريا ـ بدعم من العديد من الأنظمة في المنطقة مالياً ولوجستياً, وترك المعارضة الديمقراطية والوطنية بدون أي دعم دولي بقصد تهزيمها ـ لتشويه صورة الثورة واعتبارها من قبل المجتمع الدولي على أنها تحولت من ثورة التحرير إلى ثورة الجهاد من أجل ( دولة الخلافة ), مما دفعت بالمجتمع الدولي إلى تغيير موقفها, واتخاذ موقف موحد لمحاربة الإرهاب وترك مصير النظام للمراحل اللاحقة ليحدده الشعب السوري عبر صناديق الإقتراع, وهذا ما حصل ويحصل اليوم. ومع إفشال العمل السياسي والدبلوماسي في لقاءات جنيف المتكررة, وكذلك آستانة, تنامى التدخل الخارجي وبالتدرج لتقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ دولية بذريعة إنشاء مناطق تخفيف العمل العسكري التي تم الإقرار بها في لقاءات آستانة بين قسم من المعارضة المسلحة والنظام وبرعاية روسية وتركية وإيرانية, من دون أن يكون للمعارضة رأي فيها لضعفها وتشتتها والتشكيك بتمثيلها للشعب السوري وبالثورة التي تشوهت وتلطخت برجس الإرهاب والإرهابيين.. وبالتالي, فإن سوريا أصبحت مباحة بكليتها للتدخل الدولي (عسكرياً وإستخباراتياً) إضافة إلى السيطرة على إرادة المعارضات المختلفة والنظام معاً لتمرير سياسات دولية تفرض على الشعب السوري كأمر واقع بعد الوصول به إلى حالة من اليأس وفقدان الأمل. ومن أجل مواجهة المخاطر الحقيقية التي تنتجها الدول النافذة لتمرير سياساتها ولتحقيق مصالحها على حساب قضية الشعب السوري في الحرية والكرامة, تقتضي هذه المرحلة الدقيقة والعصيبة من حياة الشعب السوري ومكوناته المختلفة الإلتفات إلى خلق نوع من اللحمة والتكاتف بين النخب المختلفة من الوطنيين والديمقراطيين وممثلي مكونات الشعب السوري الدينية والمذهبية والقومية لعقد مؤتمر وطني شامل للوقوف على الحالة المتدهورة لإسعاف ما تبقي من الشعب والوطن بمساعدة الخيرين من الدول والشعوب الصديقة. يقيناً, بأن الهروب من المسؤولية وترك البلاد للقدر وللدول الحاضرة على أرض سوريا, وترك المسؤولية على عاتق المعارضات المستسلمة ( بثلاث أطرها ومنصاتها, قاهرة والسعودية وروسيا ) سنفقد ما تبقى من الشعب والوطن, وسوف لن نرى بعد اليوم وطناً لكل السوريين كما أراده شعبنا والذي كان هدفاً وشعاراً لثورة الحرية والكرامة.
