وحيد عبد المجيد: ليست كل ديموقراطية ليبرالية … ولا جميع الديموقراطيين ليبراليون

Share Button

الخلط بين الليبرالية والديموقراطية من الأخطاء الشائعة في العالم، فما بالنا بالعالم العربي الذي يقل وجودهما في بلدانه، بل يندر. كثيرة أسباب هذا الخلط الذي يعود، قبل كل شيء، إلى أن بعض الأفكار والقيم الليبرالية ضرورية لترسيخ الديموقراطية، مثل الحرية السياسية، والتعددية، وقبول الآخر، والتسامح، والاختيار الحر. وهذا هو ما اصطلح على تسميته ثقافة الديموقراطية. ولكننا نجد في الليبرالية أفكاراً وقيماً مهمة للرأسمالية أيضاً (مثل الحرية الاقتصادية)، وكذلك العلمانية (مثل حرية الاعتقاد، والحريات الثقافية عموماً). ولا يعني ذلك أن الليبرالية هي الديموقراطية، أو أنها هي الرأسمالية، أو أنها والعلمانية سواء.

الليبرالية أفكار وفلسفات وقيم ومبادئ، بينما الديموقراطية إجراءات وترتيبات ومؤسسات وتفاعلات. الليبرالية أقدم تاريخياً من الديموقراطية. بدأت إرهاصات الليبرالية في القرن الخامس عشر خلال عصر النهضة الأوروبية، ثم توسع نطاقها في عصر التنوير في القرن الثامن عشر. عمر الديموقراطية أقصر، إذ يصعب أن نجد لها أساساً قوياً قبل بداية القرن التاسع عشر، حين بدأ تطورها في ارتباط وثيق بحصول البرلمانات القليلة التي كانت موجودة في بعض البلدان على صلاحيات رقابية وتشريعية.

تختلف الليبرالية والديموقراطية، إذن، في مسارهما التاريخي، كما في طبيعتهما. الليبرالية أسبق من الديموقراطية. والليبرالية تتعلق بالأفكار والقيم، بينما تتجلى الديموقراطية في إجراءات ومؤسسات.

الليبرالية، بشيء من الاختزال، منهج أخذ البشر إلى مساحات أرحب بكثير من تلك التي بقوا فيها على مر تاريخهم. وما زال كثير منهم محبوسين فيها يبحثون عن خلاص في عقائد مطلقة دينية أو قومية، أو في انتماءات أولية، أو في أشخاص يعتبرونهم أبطالاً. إنها ذلك المنهج الذي ينطلق من إيمان بقدرة الإنسان على تحسين شروط حياته عندما يمتلك حريته، ويتحرر عقله من الكوابح التي تعطل التفكير والإبداع والابتكار.

والديموقراطية، في المقابل، وبشيء من الاختزال أيضاً، نظام سياسي أخذ البشر الذين يعرفونه إلى مساحات أوسع مما ظلوا فيها عبر التاريخ، وأتاح لهم اختيار ممثليهم بدءاً من المكان الذي يعيشون فيه (المحليات أو البلديات)، ووصولاً إلى رئاسة الدولة، من خلال عملية تنافسية تتبارى فيها أحزاب ومنظمات وأفراد وفق محددات إجرائية يضعها الدستور والقانون في كل بلد، وضمن قواعد تحدد العلاقة بين مؤسسات النظام السياسي.

فهل يعني ذلك أنك يمكن أن تكون ديموقراطياً، من دون أن تصبح ليبرالياً؟ والجواب نعم، هذا ممكن. حدث كثيراً، ويحدث.

في العالم ديموقراطيون كثيرون ليسوا ليبراليين، بل اشتراكيون، ويساريون ذوو اتجاهات مختلفة، وبراغماتيون، ومحافظون Conservatives. وما أكثرها الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية التي نشأت منذ أن انقسم اليساريون في ألمانيا في أواخر القرن التاسع عشر إلى حزبين أحدهما شيوعي خاصم الديموقراطية، والثاني اشتراكي وجد في النظام الديموقراطي طريقاً أفضل لتحقيق العدالة الاجتماعية عبر الانتخابات. وأصبحت الديموقراطية ضمن الثوابت الفكرية للاشتراكيين في ألمانيا، وفي عدد كبير من البلدان التي نشأت فيها أحزاب يسارية ولكنها ليست ماركسية. وظل الاشتراكيون الديموقراطيون هم العدد الأكبر في أوساط اليساريين الذين التزموا بالديموقراطية، بل سعوا إليها، وبذلوا جهدهم للمحافظة عليها، مثلهم في ذلك مثل الليبراليين ولكن اعتماداً على أفكار ومرجعيات أخرى، أي ليست ليبرالية. ولكن حركات الشباب والطلاب في عام 1968 أنتجت تيارات يسارية كانت جديدة في حينها، وآمن معظمها بالديموقراطية، واتجاهات أخرى ديموقراطية ذات توجهات اجتماعية أُطلقت عليها مسميات عدة أكثرها دقة: الديموقراطية الجذرية Radical Democracy، والديموقراطية القاعدية Grassroots Democracy.

وازدادت أعداد اليساريين الديموقراطيين تدريجاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق ومنظومته الدولية، إذ اتجه كثير من الأحزاب الشيوعية التي كان أعضاؤها مؤمنين بفكرة دكتاتورية البروليتاريا إلى تبني قيم ديموقراطية بدرجات مختلفة في العمق والمدى.

وتبنت التيارات المحافظة المعتدلة أيضاً الديموقراطية، مع احتفاظها برفض التوسع في الحريات الاجتماعية والثقافية التي يعتقد المحافظون أنها تؤثر في تقاليد المجتمع وعاداته أو قيم موروثة فيه. وقد لا نجد في العالم اليوم حزباً أكثر إيماناً بالديموقراطية، من حيث سياسات الحكومة التي يقودها، من حزب الاتحاد الديموقراطي المسيحي الذي تتزعمه إنغيلا ميركل في ألمانيا، وهو حزب محافظ تمثل المسيحية إحدى المرجعيات المحددة لتوجهاته تجاه بعض القضايا الاجتماعية والثقافية.

وإذا كان من الطبيعي أن يوجد ديموقراطيون غير ليبراليين، فمن الممكن أيضاً بناء الديموقراطية حتى إذا كانت التيارات الليبرالية ضعيفة، وحتى إذا لم تكن ثقافة الديموقراطية (المستمدة في جوهرها من الليبرالية) راسخة، في بلد أو آخر. وليست اليابان حالة وحيدة في هذا السياق، ولكن تجربتها تنطوى على دلالة قوية إذ أمكن بناء نظام ديموقراطي كامل الأركان في بيئة ثقافية غير ليبرالية، بل في ظل سيادة ثقافة جماعية تنفر من الفردية التي تُعد بمثابة القيمة الأكثر فرادة في الليبرالية.

ولكن هل يعني ذلك أن في إمكاننا القول إن كل ليبرالي هو ديموقراطي، ولكن ليس كل ديموقراطي ليبرالياً؟ كان هذا صحيحاً إلى حد كبير حتى ثمانينات القرن الماضي عندما انتشرت نسخة جديدة من الليبرالية، أُطلق عليها «الليبرالية الجديدة»، تعطي أولوية قصوى وجوهرية للحرية الاقتصادية على ما عداها، ويمكن أن يقبل بعض من يؤمنون بها تعطيل الديموقراطية إذا اقتضت ذلك مصالح المستفيدين من توسيع نطاق حرية السوق إلى أقصى مدى، وبلا حدود. ويستدعي التفكير في موقف الليبراليين الجدد تجاه الديموقراطية حديثاً آخر.

Share Button

عن PDPKS

x

‎قد يُعجبك أيضاً

صدور العدد الجديد 639 من الديمقراطي

صدور العدد الجديد (639) من جريدة الديمقراطي باللغتين العربية و الكردية. الافتتاحية : من المعلوم ...