لخمس سنوات, كان أداء الرئيس أوباما في السياسة الخارجية أكثر اعتمادا على الطريقة التي يعتقد أن العالم يعمل من خلالها أكثر منها على الواقع. لقد كان ذلك العالم “الذي تنحسر فيه موجة الحرب” وكان يمكن للولايات المتحدة, دون أن تتكبد الكثير المخاطر, أن تقلل فيه بشكل كبير حجم قواتها المسلحة. الزعماء الآخرون, ومن خلال هذه النظرة, سوف يتصرفون بطريقة عقلانية لصالح شعوبهم ولصالح العالم. الاجتياحات والقوة الغاشمة, ومناورات القوة العظمى وتغيير لتحالفات, كلها أمور أصبحت من الماضي. وزير الخارجية الأمريكي جون كيري عبر عن هذه العقلية على برنامج “هذا الأسبوع” على قناة أي بي سي يوم الأحد عندما قال حول اجتياح روسيا لجارتها أكرانيا :”إنه تصرف يعود للقرن التاسع عشر يحصل في القرن العشرين”.
هذا أسلوب تفكير جيد, وجميعنا نعي تماما ما يقصد. لم يعد موقف الدولة يقاس بالوزن أو عدد الكاتب. لقد أصبح العالم أكثر اتصالا بحيث لا يمكن تقسيمه إلى كتل متفرقة. بلد صغير يعمل من خلال الفضاء اللإلكتروني يمكن أن يحقق ازدهارا لشعبه (مثل سنغافورة وإستونيا) أكبر من عملاق يمتلك مصادر طبيعية وجيوش جاهزة.
لسوء الحظ, فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يتلق مذكرة سلوك القرن الواحد والعشرين. ولا الرئيس الصيني, تشي جبينغ, المنخرط في دبلوماسية السفن الحربية ضد اليابان والدول الأضعف جنوب شرق آسيا. والرئيس السوري بشار الأسد يشن حربا شعواء تعود إلى القرن العشرين ضد شعبه, ويرسل المروحيات لتلقي البراميل المتفجرة المملوءة بالبراغي والمسامير وشظايا معدنية أخرى على المباني السكنية حيث تجتمع العائلات في الطوابق السفلية منها. هؤلاء الرجال لن يرتدعوا بمجرد عدم الموافقة على فعلهم من قبل نظرائهم, أو لاعتبارات الرأي العام العالمي او بسحب استثماراتهم من شركات وادي السيليكون. إنهم قلقون بصورة رئيسة على مناصبهم في السلطة.
السيد أوباما ليس مسئولا عن سوء التصرف هذا. ولكن بإمكانه لعب دور قيادي في هيكلة التكاليف والمنافع التي يجب أن توضع بعين الاعتبار قبل أي تصرف. نموذج احتلال السيد بوتين لشبه جزيرة القرم يشبه اجتياحه لجورجيا عام 2008. عندما كان الرئيس جورج بوش رئيسا. لم يدفع الرئيس بوتين ثمنا لقاء فعلته تلك؛ بل في والواقع, ومع بقاء أجزاء من جورجيا تحت سيطرة روسيا, سمح له باستضافة الألعاب الأولمبية الشتوية بعد ذلك بقليل. الصين خوفت الفلبين وطالبت بمساحات شاسعة من المجال الجوي والبحري مع استمرارها في الحشد العسكري السريع والمثير للإعجاب تكنولوجيا. يمكن القول, إنها دفعت ثمنا تمثل في إثارة عصبية جيرانها, الذين هم بأمس الحاجة لأن تلعب الولايات المتحدة دورا متوازنا في المنطقة. ولكن لا أحد من هؤلاء الجيران واثق أن الولايات المتحدة يمكن أن يعتمد عليها. منذ أن تخطى دكتاتور سوريا الخط الأحمر واستخدم السلاح الكيماوي مما أدى إلى مقتل 1400 شخص, فإن موقف الدكتاتور العسكري والدبلوماسي تعزز بصورة كبيرة.
الرغبة في الإحجام – للتركيز على ما يطلق عليه السيد أوباما بناء الأمة في الداخل- ليس بالأمر الجديد, وكما يروي السفير السابق ستيفن سيستانوفتش في كتابه الذي يلقي فيه الضوء على تاريخ السياسة الخارجية الأمريكية “المتطرف” فقد كان هناك حالات إحجام وتراجع بعد حربي كوريا وفيتنام وعندما انهار الاتحاد السوفيتي. ولكن الولايات المتحدة اكتشفت أنه في كل مرة يصبح العالم مكانا أخطر دون قيادتها وأن الفوضى في العالم يمكن أن تهدد استقرار الولايات المتحدة. كل فترة من فترات الإحجام كانت تتلوها سياسة أكثر نشاطا (على الرغم أنها ليست أكثر حكمة دائما). اليوم لدى السيد أوباما الكثير من الحوافز داخل الحزبيين كما يعكس الرأي العام. ولكنه مسئول أيضا عن المزاج الدولي: إذا لم يعد الرئيس للانخراط عالميا, فإنه ليس بوسع أي طرف آخر أن يقوم بذلك بصورة فعالة.
البيت الأبيض غالبا ما يرد باتهام المنتقدين بأنهم دعاة حرب يريدون أن يكون هناك قوات أمريكية على الأرض في جميع أنحاء العالم ولم يتعلموا من دروس العراق. لذلك دعونا نقول أننا لا نريد وجود قوات أمريكية في سوريا, ولا نريد وجود قوات أمريكية في القرم. القوة العظمى يمكن أن تصبح مشتتة واقتصادها متعثرا, وكذلك قدرتها على القيادة. ولاشئ من هذه الأمور بسيط.
ولكنه صحيح أيضا أنه وطالما أن بعض الزعماء يمارسون ما أطلق عليه السيد كيري قوانين القرن التاسع عشر, فإنه ليس بوسع الولايات المتحدة التظاهر أن ما يجري أمر بعيد عنها. القوة العسكرية والثقة بها كحليف والبقاء قوة في جميع أركان العالم مثل أفغانستان – حيث أن هذا الأمر لا زال مهما, بقدر ما نرغب أن يكون عكس ذلك. في حين تحجم الولايات المتحدة عن التدخل, فإن مد الديمقراطية في العالم – الذي كان هادرا في يوم من الأيام- سوف يتراجع. وعلى المدى الطويل, فإن ذلك يشكل أذى للأمن القومي الأمريكي أيضا.
في حين يفكر الرئيس بوتين ما إذا كان يجب أن يتقدم أكثر – إلى شرق أكرانيا- فإنه سوف يختبر مدى جدية أعمال الولايات المتحدة وحلفائها, وليس أقوالهم. الصين التي تدرس الخطوة التالية في بحر الصين الشرقي سوف تقوم بالأمر نفسه . للأسف, هذه طبيعة القرن الذي نعيش فيه.