تؤول الحياة في سورية إلى ما يشبه جهنم أرضية، كأن الذاهبين منهم إلى جهنم الآخرة لن يفاجأوا بالعيش ذاته الذي يتحملونه منذ ثلاث سنوات في وطنهم. ومطلوب من «غوغل» تخصيص موقع لكتابات السوريين عن أحوالهم المعيشية، فسكان حلب مثلاً ضربوا الرقم القياسي في الشكوى من انقطاع الكهرباء لأيام تزيد أحياناً عن عشرة. أما سكان الساحل فيعانون بدورهم من الانقطاع الكبير للكهرباء ويشعرون أنهم صاروا أشبه بالساعة الرملية يتشقلبون كل 3 ساعات بين نور وظلمة. والعديد منهم تأقلم مع هذه الحال، وخصوصاً الطلاب إذ صاروا ينامون مع الدجاج الساعة الثامنة مساء حين تنقطع الكهرباء لساعات ويستيقظون عند الرابعة فجراً ليقبضوا على أول شعاع فجر ليدرسوا.
المشكلة كما أعتقد ليست الكهرباء بل أن يلهث شعب بأكمله وراء تفصيل يُلهيه عن أمور جوهرية، ويجعله فاعلاً في حرف مسار الأحداث الدامية الإجرامية في وطنه، وإلا كيف نفسر أن الانقطاع المُمنهج يتوقف أحياناً وفي مناسبات عدة. كيوم عيد الميلاد، أو في حال وجود خطاب لأحد الزعماء يصر أصحاب القرار أن يسمعه الناس فيغمرونهم بالكهرباء! هل يتساءل أحد كيف تم إصلاح عطل الكهرباء فجأة! أو لماذا خف التقنين المُذل، لتعود الأمور إلى سابق عهدها ما أن تنتهي المُناسبة؟
وأذكر بعض الحالات التي يتشابه بها الآلاف من السوريين: أحد أصدقائي وهو طبيب اضطر للنزوح من حلب إلى بيروت حيث يعيش منذ عامين من دون عمل ويصرف من المال الذي ادخره من عمله الطبي في حلب، واضطر إلى بيع سيارته بسعر بخس، قال لي في آخر مرة التقيته أن بيته في حلب يسكنه «شبّيح»، وأن لديه منزلاً صغيراً في منطقة قرب حلب تُعتبر مصيفاً يسكنه أحد عناصر الجيش الحر. يا للتوازن الدقيق والعدالة المثالية! هذه عدالة سورية. منزل يسكنه شبيح ومنزل يسكنه عنصر من الجيش الحر. أما المواطن صاحب الحق فمنبوذ ومطرود من وطنه وبيته وقد تحول إلى مواطن افتراضي، في وطن لا يبالي به، وهو كملايين السوريين يتابع الدمار اليومي والقتل اليومي لوطنه ولشعبه.
والسوريون يُعتبرون محظوظين إذا تمكنوا من اللجوء إلى دول أوروبية يخضعون قبل ذلك لفترة تحقيق طويلة في مخيمات، يُستجوبون بدقة لأيام ولساعات، وبعدها «تتحنّن» الدولة الأجنبية عليهم وتعطيهم معونة، صدقة، هم الذين كانوا أطباء ومهندسين وأصحاب مهن في بلدهم، وكانوا يشعرون بالفخر وعزة النفس من أنهم يحصلون على المال بعرق جبينهم وبجهدهم، الآن وجدوا أنفسهم في عالم غريب يعاملهم كلاجئين ويتصدّق عليهم ببعض العطاءات، ويؤويهم غير عابئ بالدموع التي يبست على أهدابهم من هول القهر وألم الانسلاخ عن وطنهم، وهم لا يجرؤون على أي سؤال أو استفسار، فإحدى صديقاتي تمكنت بعد صبر عامين من الحصول على فيزا زيارة إلى هولندا مع ابنها المراهق، وهناك قدّمت طلباً للجوء وخضعت لفترة تحقيق طويلة قبل أن تتمكن من استئجار منزل بالمساعدة المالية التي تقدمها الحكومة الهولندية، وهي، منذ أشهر تنتظر انتهاء معاملة لم الشمل كي تتمكن من طلب زوجها وليلتئم شمل عائلة تشظت من الألم. صديقتي- وهي طبيبة- كنت ألتقيها مراراً في حلب حيث تسكن وأجدها بانتظاري في محطه القطار والتي زارتني مراراً في اللاذقية، صديقتي الغالية تحولت إلى صورة على شاشة، كم علينا أن نشكر التكنولوجيا التي اخترعت السكايب والفايبر وأساليب التواصل بين ناس نفاهم الألم والخراب كل في مكان. أتحدث إليها عبر شاشة، وأتعجب كيف أن ملامحها هي ذاتها. صار لها وجه آخر! كيف للملامح أن تبقى نفسها فيما الشخص شخصاً آخر؟
كل تلك الآلام والإحباطات واليأس والصبر، كل ذلك الجحيم، على السوري المتبقي على قيد الحياة أن يتحمله، وفوق ذلك عليه أن يوهم نفسه أن ما يعيشه حياة وأن قراراً عجيباً وأشبه بالفكاهة بتدريس اللغة الروسية في المدارس السورية هو قرار يعني أن ثمة دولة تتخذ قرارات حكيمة وأنها مهتمة بتعليم الأطفال لغة عريقة، لأن روسيا هي الداعم الأكبر لسورية، يا سبحان الله، الأحرف ذاتها ولكن الاختلاف في الترتيب فقط! (روسيا، سوريا) ألا يصلحان أن يكونا توأمين! قرار إدراج اللغة الروسية في المدارس السورية يتجاهل وضع أكثر من ثلاثة ملايين طفل سوري خسروا المدرسة وحقيبة المدرسة وأحلام الطفولة، ويعيش معظمهم في المخيمات البائسة جياعاً ومقهورين ويعانون من أقسى أنواع العصاب والأمراض النفسية والسلوكية والاستغلال أيضاً بكل أشكاله.
ربما علينا كي لا ننفجر من الغيظ أن نتخيّل أطفال المخيمات السوريين الذين أنساهم هول الرعب لغتهم العربية، أن يزقزقوا كالعصافير وهم يتعلمون اللغة الروسية من ثلّة من المدرّسين الروس الذين قد يتدفقون إلى مخيمات تؤوي السوريين. يا سلام. لوحة سوريالية يتمنى سلفادور دالي لو طال به العمر أن يرسمها بطريقته الخاصة، وأنا واثقة أنه سيضع عنواناً للوحته «العصفورية». تعلمت في الطب أن الألم نوعان، حاد ومزمن، والألم الحاد مهما كان قاسياً إلا أنه قصير يمكن تسكينه والقضاء عليه، أما الألم المزمن فهو يوهن الجسد وينخره ببطء ولؤم وإصرار أن يهدم كل حيوية وشهية للحياة، كما هي حال الألم السوري. المواطن السوري انفطر قلبه وتشظّت روحه من هول القهر والظلم والتحمل، ولم يعد يثق بأي طرف، ينظر بلامبالاة إلى آلاف المقالات التي تكتب عن داعش ولا يقرأ إلا العناوين التي تحرض في نفسه الغثيان، وبالروح اليائسة نفسها يقرأ عناوين المقالات عن النظام السوري وعن الائتلاف وعن الجيش الحر وعن الفصائل الجهادية المقاتلة وعن المؤتمرات الدولية والإقليمية وعن الانشقاقات لبهاليل يدّعون أنهم يمثلون الشعب السوري ويتاجرون بدمه.
القهر حين يصير مزمناً يوهن الشهية للحياة، القتل اليومي للسوريين وعلى مدى ثلاث سنوات يجعل المتبقّين منهم على قيد الحياة يشعرون أنهم يقفون في طابور طويل بانتظار دورهم في القتل، يشعرون أن سورية تحوّلت إلى كفن كبير بالكاد يتسع لأبنائها الذين يُقدمون قرابين لشياطين استوطنوا سورية أو يتقاتلون لتقاسم الغنائم.
من قال إن الرصاص وحده يقتل! السوري لا يموت من الرصاص فقط ولا من الصواريخ والبراميل المتفجرة ولا من الكيماوي والسارين وغيرها من أدوات القتل. كثيرون من السوريين يموتون من القهر، من اليأس الذي نخر قلوبهم، من ذلك الألم المزمن الذي عمره أكثر من ثلاث سنوات. قتل الروح أكثر إجراماً من قتل الجسد لأن أداة الجريمة مخفية. أداة الجريمة في أيدي أصحاب الأيدي الناعمة التي تتصافح بلباقة في قاعات المؤتمرات في الفنادق الفخمة والتي تبتسم لعدسات آلاف المصورين، ابتسامة النفاق، ابتسامة من اتفق على ذبح الشعب السوري مجنّداً حلفاء وأزلاماً تحت مسميات مُنمقة. هؤلاء يريدون سورية مدمّرة ويريدونها جحيماً و «عصفورية». لكن الشعب السوري لن يفقد صوابه ولا عقله لأنه يؤمن أنه يستحق الحياة الكريمة والحرية، ولأن الحق سيحرره من بطش الظلم والباطل.
نقلا عن الحياة