ضعوا عقولكم على الرف. هذا هو الشعار الذي رفعه رجال الدين المسيحيون، في فترة العصور الوسطى (عصر الظلام والتخلف) والحروب الأهلية في أوروبا.
من البديهي أن الإنسان قبل أن يتخذ قرارا في أي أمر من أمور حياته، فإنه يفكر في الإيجابيات والسلبيات، في المنافع والأضرار، يستفسر، يستمع إلى آراء غيره، يستنبط، يستنتج إلخ.. من العمليات العقلية، وقد انقسم الفلاسفة والعلماء في موقفهم من العقل الإنساني إلى فريقين:
الفريق الأول: وكانوا يمجدون العقل، ويعلون من شأنه، ويحتكون إليه، لفهم العالم وتفسيره، ويستندون إليه للتمييز بين الصواب والخطأ، وبين الخير والشر، وهو الأساس في تسيير أمور حياتهم ومجتمعهم من كل النواحي، ويمثل هذا الفريق اليونان القدامى سقراط أفلاطون وارسطو…
ولاحقا مع بداية عصر النهضة، بداية من الكوجيتو الديكارتي (أنا أفكر إذن أنا موجود).
حيث أعاد ديكارت للعقل الإنساني الحق في أن يحتكم إلى نفسه، ليفهم حتى تعاليم السيد المسيح بمعزل عن رجال الدين، وليدير شؤون حياته، ويفهم الوجود من حوله، فلا تتحقق كينونة الإنسان ووجوده عند ديكارت إلا من خلال تفكيره، واحتكام الإنسان إلى عقله وحده، مرورا بـ (إيمانويل كانت) الذي حدد مفهوم التنوير: بأنه خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه، من خلال عدم استخدامه لعقله، إلا بتوجيه من إنسان آخر، ويحصر (كانت) أسباب القصور تلك في السببين التاليين: الكسل والجبن.
وغيرهم من الفلاسفة العلماء الذين كانوا يحثون الناس على الجرأة والشجاعة الفكرية.
الفريق الثاني:
كانوا يعتقدون أن الإنسان هو ذرة في هذا الفضاء الكوني اللامتناهي، وهو كائن هشّ ضعيف بحاجة إلى قوة غيبية تدير له شؤونه، وتهديه إلى الحق والصواب، ويمثل هذا الفريق رجال الدين، وخاصة المسيحيون في فترة العصور الوسطى، الذين استغلوا هذه الفكرة ليتحكموا في رقاب الناس وعقولهم.
وكان رجال الدين يزرعون الخوف من التفكير في عقول الأطفال الغضة، منذ نعومة أظفارهم.
فأي محاولة منهم للتساؤل والتفكير وإعمال العقل في الكتاب المقدس، يعني ضمنا: الشك وعدم وصولهم إلى اليقين، وهذا بحد ذاته اسم كبير، وسيعرضهم في الآخرة إلى عذاب شديد، وأي محاولة من الإنسان لتأمل الكون، ستؤدي به لا محالة إلى الجنون، فيكبر هذا الإنسان وهو عاجز كليا عن التفكير خارج الحدود التي رسمت له، فلا هو يجرؤ على الاطلاع على الأديان والفلسفات الأخرى، ولا هو يمتلك الشجاعة لتأمّل الوجود، والعالم اللامتناهي الذي يحيط به، فهو يفكر ضمن الحدود التي تربى عليه، ويقرأ الكتب التي تؤيد الفكرة التي غرسوها بداخله، ويخشى من مطالعه غيرها، وفي نظر رجال الدين، فإن جميع الناس مجبرون على اعتناق المسيحية بالفطرة، وليس عن طريق إعمال العقل حتى طائفتهم تفرض عليهم بالقوة.
فالكل مجبر على اتباع تعاليم السيد المسيح، وبما أن رجال الدين يعتبرون أنفسهم الأجدر على فهم تعاليم المسيح، فلا يبقى أمام الإنسان العادي سواءً أكان متعلما أم لا؟ طبيبا أو مهندسا أو حتى عالما…
سوى أن يعود إليهم حتى في أدنى شؤون حياتهم الخاصة، فواجبهم المقدس ووظيفتهم الأساسية هي التنفيذ، وليس التفكير لأن رجال الدين يفكرون نيابة عنهم، فهم الأعلم بتعاليم المسيحية.
فيصاب الناس تدريجيا بحالة من العطالة والشلل الفكري، فكيف لهم في هذا الجو أن يبتكروا أو يبدعوا؟ والابتكار والإبداع هما أعلى درجات التفكير وأعمال العقل.
وكان الخوف الذي يزرع بداخلهم منذ الطفولة من عذاب الآخرة يؤدي بهم إلى أن يتحولوا إلى روبوتات في يد رجال الدين أجهزة تحكمهم الذين – رجال الدين – يوجهونهم كيفما يشاؤون، فيتصرف الناس في تفكيرهم بشكل يشبه (رهان باسكال) فهم ينفذون كل ما يقوله رجال الدين من مبدأ إذا أصابوا فهذا خير، وإذا أخطأوا فإن خطيئتهم تعود على رجال الدين.
وبالتالي يتحررون من أي عذاب في الآخرة بعد أن يكونوا قد تخلوا طواعية لرجال الدين عن حق أساسي وطبيعي من حقوقهم وهو التفكير.