ما يجري في سورية يبدو تراجيدياً بالنسبة إلى بعثييها الذين حكموا البلد سنوات، فكيف لهم أن يتخيلوا عبور قوات مسلحة كردية عراقية بعتادها الكامل الأراضي التركية لتذهب إلى مدينة كوباني الكردية السورية، وتدافع عن الأكراد المحاصرين هناك؛ ولا تستطيع قيادة الحزب القومي –البعث السوري- أن تحرك ساكناً، سوى أن بعض التعليقات الخجولة.
قبل نصف قرن بالضبط، كاد هذا المشهد أن يكون معكوسا تماما. كان الانقلاب البعثي الثاني قد حدث في سوري وقتها، بعد شهر واحد بالضبط من نظيره العراقي، الذي حدث في شباط (فبراير) 1963. كانت القيادة القومية لحزب البعث موحدة وقتئذ، وكانت الرومانسية القومية ممزوجة بروح «ثورية» عنفية طافحة. لم يرَ البعثيون الأوائل أنسب من حركة التمرد القومية الكردية في كردستان العراق لمواجهتها، إظهاراً لوحدة الحال القومية. أرسل البعثيون السوريون ألوية مسلحة من الجيش السوري بقيادة اللواء فهد الشاعر، ودك الطيران السوري مواقع الثوار الأكراد بقيادة الملا مصطفى بارزاني. لم تمض سوى شهور قليلة حتى انقلب عبد السلام عارف على رفاقه البعثيين العراقيين وعاد الآلاف من الجنود السوريين مقطعي الأوصال من هناك، وعلى عداء كامل للنظام الحاكم في العراق، الذي قفز إلى الضفة الناصرية، المعادية بدورها للنظام البعثي في دمشق.
حين فشل البعثيون السوريون في تسطير «صفاء قومي» مع نظرائهم البعثيين العراقيين، التفتوا إلى الداخل السوري لفعل ذلك، وبدأوا بالقضاء على شركائهم القوميين الناصريين. فقد كان الانقلاب البعثي في ربيع عام 1963 نتيجة شراكة بين الناصريين والبعثيين السوريين لإنهاء ما سمّي»حُكم الانفصال». قضوا على جاسم علوان وباقي الضباط الناصريين الذين معه، وكان ذلك افتتاحاً لعصر قانون الطوارئ الذي دام نصف قرن كامل وصحّر البلاد كلها.
بالتقادم، وبعد سنوات قليلة، باتت تلك القوموية البعثية الطافحة غشاء لتصارع طائفي عنيف بين أجنحة البعث الحاكم نفسه؛ قضى الجناح العسكري على نظيره المدني، وبطش الجناح «العلوي» بنظيره «السُني». فاض الريف السوري على مدنه التاريخية من دون ترتيبات هيكلية أو اقتصادية، وتكرست الزعامة المطلقة لشخص حافظ الأسد. وفي الطريق إلى ذلك، خسرت سورية كل موجهاتها المسلحة مع إسرائيل وفقدت أهم وأخصب هضابها في الجنوب، وتنازلت في ما بعد بشكل غير رسمي عن أراضيها في لواء الإسكندرون.
بدأ البعثيون «نهج المجازر» بالهجوم على المتظاهرين المدنيين في جامع السلطان في حماة عام 1964، ولم تتوقف مجازرهم الصغيرة حتى بداية الثورة السورية الحديثة، مروراً بما فعلوا طوال سنوات في حماة وجسر الشغور وسجن تدمر ومدينة القامشلي. أرهبوا مجتمعاً كاملاً، كمموا كل الحساسيات السياسية السورية، الليبرالية واليسارية والبورجوازية والقومية السورية والوسطية الدينية؛ روضوا وأفسدوا الجو الثقافي والنُخب البيروقراطية والمالية والتجارية؛ سمحوا لعمران العشوائيات بأن يطفح على بهاء المدن، وأجبروا ملايين السوريين بأن يفروا من بلادهم. في المحصلة، تحول الكيان السوري إلى حطام مثقل بكل شيء، طافح بالمعضلات البنيوية العويصة، ونظام أمني فظيع، يوزع أعماله التخريبية على كل جيرانه، ويفيض. نظام مستعد للتخلي عن كل شيء، حتى عن السيادة الوطنية والتراب الوطني، فقط لتبقى النواة الصلبة للنظام سالمة.
لم تكن النزعة القومية العربية، بأدبياتها وخطابها البعثي شبه الفاشي، في معزل عن كل ذلك طوال تلك السنين. فهي كانت على الدوام تمارس ديناميات متراكبة:
كانت القومية رؤية كلانية ترى المجتمع ككتلة هلامية متصالحة ومتطابقة. فبحسب المخيلة القومية هذه، ينتمي كل الأفراد للذات والشخصية والهوية نفسها، وبالتالي للأهداف والميول والرغبات ذاتها. وهذا بالضبط هو الدافع التأسيسي لرفض ونبذ أية حساسيات ونزعات مناهضة لـ «الرؤية الكلية» المتوهَمة.
من جهة أخرى، القومية نزعة فوقية معبأة بالغرور والثقة بالذات، نزعة تاريخانية ترى في القادم من الزمان ما يحقق رؤيتها وأهدافها من دون أي شك. لذا فهي لا تبالي بالتفاصيل والمعضلات والآلام الموضوعية، فكل شيء يمكن تحمله واستمراؤه وعبوره، لأنه في المحصلة ما هو «نبيل» و»أعلى» يمكن تحقيقه. ذلك أن النظرية القومية تستطيع أن تتجاوز وتقبل ما يصيب مجتمعاتها وجغرافيها، حتى لو باتت حطاماً.
أخيراً، فإن القومية العربية، حين تراكبت مع حالة الكيان السوري وموقعه، فإنها تحولت إلى مرجل للعدوانية المستمرة من دون هوادة. لأن من المستحيل أن تتصالح مع حركة التاريخ وأن تقبل بحل موضوعي غير «مثالي» للقضية الإسرائيلية-العربية من جهة؛ ومن المستحيل أيضاً أن تعترف بالسرديات والوجود الفعلي لغير العرب في هذه الكيانات الحديثة، لذا فإنها ستبقى في صدام دائم ومفتوح.
في البال أمران ملحان: بعد كل هذا الخراب العميق الذي أصاب المجتمع والجغرافيا السوريين، ثمة من يعتبر بأن المعضلة ليست في النظرية أو الخطاب القومي البعثي، بل في جوهر النظام السوري نفسه، من دون أي وعي بأن الأمور متراكبة، وأن النظام السوري ما كان له أن يصل إلى هذه الحال لولا ذلك التأسيس النظري والخطابي في تلك النظرية ونزعاتها. الأمر الآخر يتعلق بجماعات وتكوينات مجتمعية سورية أخرى غير عربية، تريد من جديد أن تعيد لوك كل البؤس القومي، وكأن شيئاً من أوجاع ذوي القوميات الأخرى لم يطلها!
*
نقلا عن الحياة