كلّلت الهدنة الجزئية في سوريا التي توصّل إليها الجانبان الروسي والأميركي، رهانات الرئيس الروسي على السياسية الخارجية، كما تأهّب الكرملين للقيام بدور محوري وسط الصراع في الشرق الأوسط، والتخبّط الأوكراني، وتفاقم الصدوع في الاتحاد الأوروبي.
إلا أن تحقيق الرئيس الروسي نقاطاً مرتفعة في لعبة السياسة، لا يخفي الأسئلة المتصاعدة حول لعبة روسيا النهائية، وأهدافها على هذه الجبهات الثلاث، بحسب تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأميركية.
ففي سوريا، استطاعت روسيا تحقيق هدفها الرئيسي ودعم حكومة بشار الأسد، حليفها العربي الأول، لكن أهدافها الكبرى لم تزل غامضة، وربما ليس من ضمنها البحث عن الخروج المشرّف من هذا الصراع الفوضوي.
أما في أوكرانيا، فرغم التزامها العلني بتنفيذ اتفاق السلام الذي تمّت الموافقة عليه العام الماضي، إلا أن تجدّد القتال في المناطق الانفصالية المدعومة من روسيا، قد يعني سعي موسكو لزعزعة الاستقرار في كييف الواقعة بالفعل في دوامات الشجار السياسي الداخلي.
كما يسعى الرئيس بوتين لتعميق شروخ الاتحاد الأوروبي، آمِلاً في كسر إجماع الثماني وعشرين دولة، الذي تسبب بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا بعد ضمها جزيرة القرم في 2014، ويُسّخِر الكرملين آلته الإعلامية للإساءة للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، باعتبارها الشخصية الأكثر مركزية في مواجهة موسكو، ويصفها بأنها تعاني هي وبلادها، من “عسر الهضم” بسبب كثرة اللاجئين.
إلهاء الشعب
“إنجازات” بوتين هذه تستهدف بالدرجة الأولى الشعب الروسي بهدف إلهائه عن المشاكل الاقتصادية التي تزداد عمقاً. ويسخر نيكولاي بتروف، أستاذ العلوم السياسية بجامعة موسكو من هذه الاستراتيجة قائلاً “على شاشات التلفزيون يبدو الروس أقوياء، ومهمّين وعظماء”.
بوتين أعلن مساء الاثنين الماضي الاتفاق على “وقف الأعمال العدائية في سوريا”، مقلّلاً من أهمية الاتفاق كجهد روسي–أميركي مشترك. ويبدو أن الرئيس الروسي أصابه الحنين لأيامٍ كان حلُّ مشكلات العالم مسؤولية القوّتين العظميين، وذلك قبل انهيار الاتحاد السوفيتي.
وأضاف بوتين “ستقوم روسيا بعمل اللازم مع دمشق والقيادة السورية الشرعية”، وستقوم الولايات المتحدة بالمثل مع حلفائها وجماعات المعارضة، وأضاف “أنا متأكد أن الجهود المشتركة التي تمّ الاتفاق عليها مع الجانب الأميركي ستغير الوضع السوري جذرياً”.
ولم يكتف بوتين بذلك، بل أوضح أن التدخل الروسي في سوريا سيمنع انهيارها الكارثي كما حدث للعراق وليبيا واليمن، جامعاً إياها مع الثورات الملونة المدعومة أميركياً في أوكرانيا 2004، وجورجيا 2003، وأضاف أن سوريا قد تُمثّل نموذجاً لما يمكن اعتباره “أفعال مسؤولة”.
يُذكر أن روسيا أرسلت 50 طائرة حربية إلى قاعدة جوية بالقرب من مدينة اللاذقية السورية في سبتمبر، بالإضافة إلى 4000 جندي لحماية الطائرات. وتم اعتبار هذه الخطوة وسيلة روسية لتحقيق خمسة أهداف: منع تغيير النظام السوري من خارج البلاد، وإحباط مخطط واشنطن لعزل موسكو، وإثبات أن روسيا حليفٌ أكثر صلابة من الولايات المتحدة، بالإضافة إلى استعراض الأسلحة الروسية الجديدة وتقديم سياسة خارجية جديدة للشعب الروسي المتعب من الحرب الأوكرانية المجاورة.
3 ملايين دولار يومياً تكلفة مغامرته العسكرية
نجحت روسيا بالفعل في تحقيق هذه الأهداف، مما دفع ببعض الأصوات لمطالبتها بالعودة لبلادها. وكما قال بوريس نادزهدين، أحد نواب البرلمان الروسي السابق، على شاشة أحد البرامج الحوارية “لدينا الآن إنجازات واضحة. كما أننا مشاركون رئيسيون في المفاوضات حول مستقبل سوريا، فنحن الآن محطُّ أنظار الجميع”.
وأضاف ” لقد بقي نظام الأسد في السلطة، وعلينا الآن التوقّف عن إنفاق هذا الكم من الأموال على سباق التسليح، والوصول لتسوية سياسية”.
لكن بوتين يعتبر أن سوريا هي عملٌ لم ينتهِ بعد، أما التكلفة اليومية للعملية العسكرية في سوريا والتي تقارب ثلاثة ملايين دولار يومياً، فقد اعتبرها بوتين مالاً أُنفِق في محله من ميزانية التدريب العسكري.
وكانت قوات الأسد قد حاصرت حلب، التي ظلت طويلاً معقلاً للمعارضة، وسيستمر القتال حتى بداية الهدنة الجزئية التي تبدأ السبت القادم. لكن هناك ثغرة خطيرة في اتفاقية الهدنة الجزئية وهي سماح الهدنة بقتال تنظيم “الدولة الإسلامية” و”جبهة النصرة”، وهو ما قد يكون في صالح روسيا إذ إن معظم الجماعات المناهضة للأسد والتي تدعمها الولايات المتحدة تقاتل بجانب “جبهة النصرة”.
بالتالي، بينما يُطلَب من حلفاء الأميركيين وقف القتال ضد النظام السوري، تستطيع روسيا ونظام الأسد الاستمرار في قصف جماعات المعارضة التي تساندها أميركا، وهي لن تقوم بشيء لوقف ذلك بحسب ما سجّله التاريخ من قبل.
في النهاية، يعتقد المحللون أن روسيا توّد التواجد إلى حين إقامة حكومة سورية جديدة، للتأكد من أن دمشق ستظل عاصمةً حليفة، ولتبين أن الانتقال السياسي يتحقّق عبر المفاوضات وليس عبر إسقاط النظام، وكان الأسد قد أعلن 13 إبريل/نيسان موعداً للانتخابات البرلمانية.
لا تهاود مع السنة
ولا ترغب موسكو، والأسد بطبيعة الحال، أن يتفاجؤوا بسيطرة السنّة على السلطة على حين غرّة، وهم الذين يشكّلون العمود الفقري للمعارضة، ويعادون موسكو بسبب دعمها للأسد.
وفي هذا الصدد، قال “ألكسندر شيوميلين” الخبير في شؤون الشرق الأوسط في الأكاديمية الروسية للعلوم ” إن المرحلة النهائية بالنسبة لروسيا هي الانتقال للعملية السياسية من موقع قوة” وأضاف “لا يمكن معرفة إلى أي مدى ستطول تلك العملية، فسيعتمد هذا على طبيعة الموقف حينها، وهو معقّد للغاية حالياً”
من بين تلك التعقيدات أن الأسد، الذي غدا أكثر جرأة بفضل الدعم الروسي والإيراني، قال مؤخراً أنه يعتزم استعادة السيطرة على جميع أنحاء سوريا. لتبقى “الدولة الإسلامية” فقط كخصمٍ كبير، إذا ما ساعدت روسيا على هزيمة المعارضة في غرب البلاد.
عدم رضى روسي عن الأسد
من شأن هذا أن يضع روسيا في موقفٍ حرج لا يمكن التنبؤ به جرّاء دعمها لدمشق خلال معركةٍ شاقة وطويلة ودموية على الأرجح، لطرد المتشددين الإسلاميين. ورداً على ذلك؛ قامت بعض الأصوات الروسية في الآونة الأخيرة بالاعتراض على رفض الأسد للخطة الروسية للتسوية ووقف إطلاق النار والتي عرضتها مؤخراً في الأمم المتحدة.
وقال فيتالي تشوركين سفير روسيا لدى الأمم المتحدة، لصحيفة الكوميرسانت اليومية إن الحكومة السورية ينبغي عليها اتباع القيادة الروسية في تسوية هذه الأزمة، لأنها إن ارتأت أنه لاحاجة للهدنة وعلينا القتال حتى النهاية فسيستمر هذا الصراع لفترة طويلة جدًا.
بطاقة رابحة أخرى لموسكو هي علاقتها العدائية المتزايدة مع تركيا، بعد إطلاق النار على طائرة حربية روسية لاختراقها المجال الجوي التركي في شهر نوفمبر. وتتّهم روسيا تركيا بالتخطيط لغزو سوريا، ومن المرجح أن توجّه اللوم لأنقرة وتحمّلها المسؤولية إذا ما انهارت الهدنة الجزئية.
لكن حتى الآن، يمكن للكرملين أن يعتبر سوريا بمثابة ملفٍّ ناجح، فهي كما قال بتروف، أستاذ العلوم السياسية، “رخيصة جداً، غير دموية، إذ لا يوجد ضحايا روس، ويراها المجتمع الروسي بشكل إيجابي”.
أهداف موسكو
كانت سوريا أيضاً وسيلةً لإلهاء الشعب الروسي عن الحرب المستمرة المجاورة في أوكرانيا، فالصراع أقل إثارة للمشاعر القومية. ومع ذلك لايزال يخدم مصالح موسكو عن طريق زعزعة استقرار حكم الرئيس بترو بوروشينكو وصرف أوروبا عن إقامة علاقات قوية مع كييف، وهو هدفٌ روسي يسير جنبًا إلى جنب مع رفع العقوبات الاقتصادية عن شبه جزيرة القرم. وكانت العقوبات الاقتصادية قد خفضت من وصول روسيا إلى الأسواق الغربية، التي هي في أمسّ الحاجة إليها لمواجهة الركود. والسؤال هو: ما هي أفضل الطرق لإقناع أوروبا والولايات المتحدة برفعها؟
من ناحية، كان من المفترض أن يؤدي التدخل الروسي في سوريا إلى تأكيد دور موسكو كشريك يمكن الاعتماد عليه في حل المشكلات الدولية، مما قد يساعد على تحفيز مسألة إنهاء العقوبات. لكن من ناحية أخرى؛ هاجمت روسيا حلفاء الغرب من المعارضة السورية بدلًا من مهاجمة الدولة الإسلامية في تأكيد لهم – أي للغرب- أنها لايمكن الاعتماد عليها بالفعل.
وبالتالي من الأرجح أن تنظر موسكو نحو المسار الأصعب من استغلال الانقسامات في أوروبا كوسيلة أفضل لإنهاء العقوبات.
وقال كونستانتين فون إغرت، المحلل السياسي المستقل إن شيئًا واحدًا هو المؤكد بالنسبة لروسيا خاصة في ضوء انهيار أسعار الطاقة وهو إنها “لا يمكن أن تعود إلى الساحة العالمية تحت وطأة هذه العقوبات.”