ساد طويلاً في فضاء المجتمع التركي منظور تاريخي، عمد دوماً إلى إزاحة غير الأتراك عن المشهد ودفعهم إلى سوية أدنى ثقافياً واجتماعياً. وقد استمر هذا الطوق قروناً طويلة إلى أن تمكن العرب من تمزيقه فيما جرى القضاء على الأرمن والسريان والآشوريين من طرق الإبادة. و بقي هناك الأكراد الذين بات الاستفراد بهم لحشرهم في زاوية الإهمال أمراً سهلاً للغاية.
وترسخ هذا السلوك إلى أن غدا عادة يومية وما زالت العقلية المتفشية هي تلك التي ترى في الأكراد جنساً أدنى مرتبة وأقل شأناً من الأتراك. وباتت هذه الصورة النمطية شائعة بحيث تحولت إلى بديهة لا تحتاج إلى مراجعة. لنتذكر مثلاً أن الشاعر الشهير ناظم حكمت، الموصوف بالتقدمي والمناصر لحق الشعوب في تقرير مصيرها، لم يتطرق أبداً إلى الأكراد وما يلاقونه من عسف على يد حكومات بلاده.
كان ذلك قد تكرس كركن أساسي من المنظومة السردية للدولة التركية. وشمل ذلك جوانب العيش، من النظام التعليمي في المدارس والجامعات والمناهج والصحف والكتب وأوجه الثقافة بما في ذلك الأدب والمسرح وصولاً إلى المساجد والجوامع وخطب الجمعة والمؤسسات الدينية كافة. وتكرست مسألة قبول الأفكار والمقولات والمفاهيم الطافحة بالعنصرية إزاء الأكراد وصارت أمراً معيوشاً لا ينتبه إليه أحد. ولم يفكر أحد في الالتفات إلى الأكراد أنفسهم والاستماع إلى ما يختزنونه من هواجس. فقد كان الوعي، واللاوعي، السائدان يعتبرانهم غير جديرين بأن تكون لهم داخل حدود الدولة مكانة لائقة ورأي مسموع (ثم توسع ذلك إلى أن شمل الأكراد أينما كانوا، أي بمن فيهم أولئك الذي يقطنون خارج حدود الدولة التركية. وباتت آلة الاستعلاء، وبالتالي البطش، التركية تلاحق الكري، أياً كان وأينما كان).
لقد رسمت السردية التركية، الرسمية والشعبية على السواء، الكردي في هيئة كائن متخلف يعاني من قصور جوهري، ماهوي. وامتدت هذه السردية عبر الزمن وهاهي تتجسد في السلوك الذي يتبعه رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان.
ليس ثمة من تفسير منطقي لاعتراضه هو وأركان حكومته، بل أركان المعارضة أيضاً، أي كل الطاقم السياسي التركي، على كل نشاط سياسي كردي. وكثيراً ما يفشل المراقبون والمشتغلون بالسياسة والصحافيون والكتاب ونشطاء الرأي العام والمدافعون عن حقوق الإنسان، في العثور على أسباب منطقية لغرابة وعنجهية السلوك التركي حين يتعلق الأمر بالأكراد.
انتابت النخبة السياسية الحاكمة في تركيا غضب كبير حين فاز حزب الشعوب الديموقراطي في الانتخابات. ولم يكن مرد ذلك الانزعاج من برنامج الحزب أو سياسته أو جملة مطالبه. كان الانزعاج من الفكرة نفسها، أي أن يمارس الأكراد السياسة (حين دخلت ليلى زانا البرلمان لأول مرة في تاريخ الدولة التركية ونطقت جملة بالكردية تدعو إلى الأخوة والمساواة بين الأتراك والأكراد عمّ قاعة البرلمان هرج ومرج وشرع الجميع، بمن فيهم رئيس الوزراء سليمان ديميريل، بالضرب على المقاعد بقبضات أيديهم وهم يصرخون مطالبين بإخراجها من القاعة. وقد زج بها في السجن خمسة عشر عاماً).
ينهض الاعتراض التركي على النشاط الكردي من رفض النشاط بحد ذاته وليس رفض محتواه أو اتجاهه أو فحواه. فليس مقبولاً في المنظور الدولتي التركي، ولكن الشعبي أيضاً، أن يتصرف الأكراد بوصفهم أنداداً للأتراك لهم القيمة والاعتبار ذاتهما. لا يمكنهم أن يتصرفوا بما يشير إلى إمكانية قيامهم بتحديد مصيرهم بأنفسهم. عليهم أن يبقوا تابعين، مسيّرين، من دون أي ميل إلى إبداء الاعتراض. وكان وزير العدل التركي في زمن أتاتورك قال علناً موجهاً الكلام إلى الأكراد بعد أن قاموا بتمردات ضد القمع التركي: الأتراك هم وحدهم سادة هذا البلد والآخرون لهم وظيفة واحدة فقط وهي أن يكونوا عبيداً لنا. هذا الكلام الذي يمكن، في أية دولة ديموقراطية، أن يزج بصاحبه في السجن لعنصريته الفاقعة قالها وزير تركي في دولة شيدها أتاتورك على المقاس الغربي، الديموقراطي. لم يكن مجرد وزير، بل كان وزير العدل. وهذا هو العدل في العرف السياسي التركي.
لم تتغير الذهنية التركية في نظرتها إلى الأكراد عبر الحكومات التي تعاقبت على سدة الحكم. هي ذهنية المستعمر العنصري بكامل أوصافها من حيث التسلط والغطرسة وآلات القمع والقوة.
والحال أن معاينة بسيطة للواقع الكردي في تركيا تكشف عن حالة عنصرية فاقعة: ثمة المركز الاستعماري المتسلط، في أنقرة وإسطنبول، يتحكم بالطرف الخاضع للهيمنة في ديار بكر وهكاري وبينغول وسواها من الأقاليم الكردية. في المركز التركي تبني الحكومة الجامعات والمستشفيات والجسور وسكك الحديد والمرافق العامة وفي الطرف الكردي تقيم المخافر والثكنات والأسلاك الشائكة وتفرض منع التجول والحصار وتفتك بالناس.
تشكل المنطقة الكردية مكاناً لتصريف الشعور الاستيلائي الاستعماري. هي مستعمرة تركية يمضي إليها العساكر ورجال الشرطة وأجهزة القمع والمخابرات للإبقاء على سكانها مقموعين ومنعهم من التحليق بخيالهم بعيداً عما هو مرسوم لهم.
لم يتغير شيء منذ قامت الدولة التركية ولحد الآن. ويبدو أن لا شيء سيتغير في المستقبل القريب. ستستمر الحكومة التركية في ممارسة هوايتها الموروثة عن سابقاتها في قتل الأكرد وإهانتهم وملاحقتهم وقصف مدنهم وقراهم ولن يرفع أحد الصوت لأن هكذا جرت الأمور.
وعليه يقف الأكراد أمام تحد صعب. يترتب عليهم ليس فقط التحول إلى لاعب سياسي ناجح في الحكم والإدارة بل عليهم، وقبل أي شيء آخر، انتزاع الاعتراف بهم ككائنات إنسانية كاملة الصفات. هذا يتطلب التخلص من الشعور بالدونية والذي لا يمكن أن يتحقق من دون تخلص الأتراك، أو إجبارهم على التخلص، من عقدة الاستعلاء.
* كاتب كردي سوري
عن الحياة