لا تبقى أي شرعية لأي حكومة تقسم شعبها إلى زمر وعصب موالية ومعارضة لها. ولا يكون أي نظام وطنيا أو شعبيا إن هو قرب الموالين وعادى المعارضين، أو وضع هؤلاء في مواجهة أولئك، أو حرض أحدهما ضد الآخر، أو خلق أجواء حرب أهلية بين من يفترض أنهم مواطنوه. إن الحكومة التي تفعل هذا تكون خائنة بأي معيار وطني. وتزداد خيانتها فظاعة إن كانت سياساتها موجهة على نحو إرادي إلى شرخ مجتمعها وتقسيمه وفق أسس طائفية أو طبقية أو سلطوية أو جهوية… إلخ، أو كانت تسكت عمن يمارس نهجا كهذا.
استولى البعث على السلطة في ظرف خاص. كان الحزب ريفي الطابع وغريبا عن كتل المدن البشرية الكبيرة، وخاصة منها كتل دمشق، حيث بقي البعث تنظيما هامشيا رغم أن مؤسسيه كانا دمشقيين. ومع أنه كان أحد أحزاب الطبقة الوسطى آيديولوجيا، فإن الحزب فشل في أن يكون حزبها السياسي. وبما أنه أدرك خطورة دورها في مجتمع محتجز بروليتاريا وبرجوازيا، فقد عمل على احتوائها من خلال السلطة، كي يمنعها من تنظيم نفسها وبلورة رؤية قد تضعها على رأس شعب رفض البعث منذ يومه الأول، بينما حرمت سلبية الفئات العمالية والمالكة النظام الجديد من حامل شعبي مديني، وقصرت جماهيريته على الأرياف، وبالأخص على فقراء الفلاحين، الذين وجدوا في السلطة وأجهزتها سبيلهم إلى موقع طبقي جديد يتيح لهم بعض مغانم الحكم. بما أن معظم قادة السلطة وضباطها كانوا من ريف الساحل وحمص، فقد اعتمدوا الفلاحين قاعدة مجتمعية وحاملا شعبيا، قبل أن يضموا إليهم قطاعات مدينية من الأقليات، استخدموها كنسق داعم وكاحتياط استراتيجي، وضمنوا تحييدها عن بقية المجتمع وولاءها عبر تخويفها من خصم وهمي هو الأغلبية المسلمة، التي اعتبرها النظام إسلامية، ونشر أجواء جعلت منها خطرا داهما على الأقليات، التي لا حماية لها غير النظام.
هذا الوضع ساد في سوريا بصورة خاصة خلال المرحلة الأسدية، التي بدأت عام 1970. واستمر بعد توريث الحكم لابنه بشار، الذي قدم نفسه أول الأمر كرجل إصلاحي يرفض الارتباطات الفئوية، لكنه استخدم السوريين بعضهم ضد بعض، وسعى بعد ثورة الحرية إلى إثارة اقتتال طائفي فأهلي بين المواطنين، تأكيدا لأطروحة كاذبة تبناها ترى في الثورة تمردا أصوليا وطائفيا.
هل خدمت سياسات النظام الطوائف التي يسمونها اليوم «الأقليات»؟ كلا، إنها لم تخدمها، بل وضعتها بالأحرى في مواجهة مخاطر تهدد وجودها، ليس فقط لأنها حملتها أعباء تنوء أكتافها الضعيفة بحملها، تتجلى اليوم في عدد ضحاياها الذين سقطوا دفاعا عن سلطة زجت بها في حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل، تخوضها ضد أغلبية مجتمعية نزلت إلى الشارع مطالبة بالحرية لجميع السوريين، كان هؤلاء سيفيدون منها بالتساوي، لكن النظام فوت عليهم فرصتها وضحى بهم من أجل مصالحه، دون أن يقدم لهم مقابلا أو يعدهم بتغيير أو يسمح لهم حتى بالتعبير عن رغباتهم وخياراتهم، وها هي الأقليات تنزف اليوم دما، وتخسر خيرة أبنائها في معركة ليست معركتها، تعلم أن الطرف الآخر فيها لم يكن أصوليا عند بدء الثورة، وأن من غادروا البعث والجيش والسلطة والحكومة والبرلمان والجامعات والمدارس والمشافي والإدارات لم يكونوا أصوليين، بل كانوا أعضاء في النظام، الذي خدموه طيلة عقود، لكنهم انشقوا عنه حين فهموا أنه متمسك بواقع يظلم الشعب، ويرفض مطالب هي حق له، ويخيره بين «الركوع والجوع»، و«الرضوخ والقتل».
ليس شرعيا أو وطنيا النظام الذي يبني سياساته على نعرات طائفية وجهوية وإثنية يمزق بواسطتها شعبه. إن نظاما يفعل هذا لا يحمي مواطنيه، بل يضحي بهم من أجل مصالحه الضيقة، التي غالبا ما تكون شخصية. بدورها، لم تول المعارضة المسألة الطائفية ما تستحقه من اهتمام، واكتفت بمواقف كلامية منها تفتقر إلى أبعاد مجتمعية وسياسية عملية وناجعة. واليوم، ومجتمع سوريا يواجه مأزقا قاتلا أنتجه نظام حول قطاعات متنوعة المذاهب من مواطنيه إلى طوائف سلطة، ومعارضة تجاهلت دوما معنى التماهي بين بعض المكونات ما قبل المجتمعية وبين سلطة قمعية محدثة ألغت الدولة وأضعفت المجتمع، يجد الشعب نفسه مكرها على دفع أثمان باهظة من دمائه لقوى فئوية وطائفية ترفض الحرية وتقاومها بالقوة، كان من الجلي دوما أن النظام سيستخدمها لمواجهة أي تحرك وطني جامع.
ماذا أفادت الطوائف من تمسح النظام بها وتسخيرها لخدمته؟ بعد قرابة الأربعين عاما يبدو الجواب قاطعا: لا شيء غير وقوعها في المخاطر التي زعم أنه يحميها منها، والمهالك التي رماها إليها بحجة الحفاظ عليها.
الديمقراطي نقلا عن الشرق الأوسط