مهما كانت الجهة التي يخاطبها وزير الخارجية السوري، بقوله إن رئيسه بشار الأسد «خط أحمر» في أيتسوية يجري التفاوض في شأنها، فالقوى المؤثرة التي تقرر مصير النظام ليست موجودة في دمشق. حتى الاعتماد على عدد محدود من الحلفاء أمام غالبية ساحقة من دول العالم الراغبة في رحيل الأسد اليوم قبل الغد، لا يشكّل استراتيجية ناجعة في المديين المتوسط والبعيد. صحيح، يمكن القول إن النظام كسب أخيراً، لسوء الحظ، المعركة، لكن ليس بالضرورة الحرب.
في أحسن الأحوال، سيبقى النظام لفترة قد تطول قليلاً، لكن الأسد يدرك هو وأركان حكمه أنهم وضعوا اللبنة الأولى على طريق النهاية. حتى الآن، يبدو أنه قادر على التحكم بإدارته السياسية في دمشق، طبعاً بسبب الدعم الروسي والإيراني المباشر، لكنه دعم سيخضع، عند نقطة معينة، بدأت ملامحها بالظهور، لإعادة نظر حتى من أصحابه، وذلك لاعتبارات وطنية محلية في البلدين، ما يمهد السبيل لترتيب خروج الأسد. ولا شك في أن هذا يقع ضمناً في سياق الاقتراح الروسي الأخير في شأن «حل فيديرالي»، إضافة إلى أفكار أخرى مقدّمة للتسوية.
صحيح أنه لا يوجد شيء محدد ونهائي، لكن يبقى الحديث في إطار ما هو مطروح من أفكار للمناقشة بين القوتين الرئيستين، الولايات المتحدة وروسيا. والاتفاق الأخير بينهما حول خطة مشتركة لوقف الأعمال العدائية هو لحظة مهمة للغاية لم نرَ مثلها في مسار الحرب السورية منذ خمس سنوات.
كلّ من الحكومة وأطراف المعارضة المتعددة قبل، ويلتزم إلى حد كبير، بشروط اتفاق موسكو وواشنطن. وواضح أن تهديد «داعش» المتنامي كان عاملاً رئيساً جعل تقارب واشنطن وموسكو ممكناً، حتى أنهما تمكنتا من الاتفاق حول العمل المشترك في سورية، وهو أمر ما كان يخطر على بال حتى قبل أسابيع قليلة. ولا شك في أن فشل الطرفين سابقاً في التفاهم لمناقشة خطر هذا التهديد والتحدّث بلسان واحد حوله، سواء في سورية أو العراق، شجّع «داعش» و «النصرة» وغيرهما من مجموعات متطرفة على التوسّع في مناطق في البلدين.
في كل الأحوال، لم تعد أمام الأسد أبواب مفتوحة للمناورة، وإن حاول في تصريح أخير التشكيك في إمكان نجاح وقف الأعمال العدائية وتطبـــيق وقف إطلاق النار. فالواقع يؤكد أنه ليس هو الذي يملك قراري السلام والحرب، بل القرار بيد داعمَيه الرئيسين. فلولا التدخل الجوي الروسي وحقن إيران النظام بالعتاد والعون المالي واللوجيستي، لما تمكّن الأسد من كسب بعض المعارك المهمة في هذه الحرب البشعة.
وكما هو مؤكد في السرد التاريخي للحرب، ما كان يمكن الأسد أن يصمد خارج نطاق الشريط الساحلي لولا التدخل العاجل لإيران في عام الحرب الأول. وكان يمكن أن يسقط النظام على رغم عمليات الإنقاذ التي نفذتها طهران بجهود بضعة آلاف من «حرسها الثوري» في العامين الثاني والثالث، ما اضطرها إلى استخدام ميليشيات «حزب الله» اللبناني التي انتشرت في أنحاء من سورية وصلت حتى حلب شمالاً، وساهمت في إخماد قوى الثورة والمعارِضة.
إذاً، بات واضحاً كيف أن الدعم الروسي – الإيراني المباشر والسخي مع ميليشيا «حزب الله»، حال دون هزيمة قوات النظام في مواقع استراتيجية مهمة، ومكَّنها من امتلاك زمام المبادرة في المعركة. وقد شهدنا أخيراً بعد التدخل الروسي، كيف أن هذه القوات حققت تقدماً ملحوظاً في مواقع جديدة رئيسة أكانت في حلب أو حمص وريف دمشق.
وواضح أن نقطة ضعف قوى المعارضة الوطنية قبل التدخل وبعده، حرمانها من أسلحة الدفاع الجوي. فاستخدام النظام قواته الجوية بوحشية وقنابل البراميل في قصف المعارضة والمدنيين، فاق بنسبة كبيرة كل ما لدى قوات المعارضة من أسلحة. فمن دون امتلاك هذه القوات صواريخ أرض – جو محمولة على الكتف (إما أن تُزودها بها الولايات المتحدة مباشرة أو تسمح لجهة أخرى كتركيا بأن تفعل)، يصبح مصيرها محتوماً. وشهدنا في تجربة حرب أفغانستان كيف كان لصواريخ «ستينغر» الأمـيركية الصنع والمحمولة على الكتف وهي بيد المقاومة الأفغانية ضد الوجود السوفياتي، الدور الفاعل في تحييد القوة الجوية السوفياتية.
الآن مع بدء جنيف 3، لا يبدو الأسد في حالٍ أفضل بالضرورة. فالاعتماد فقط على عدد ضئيل من الحلفاء أمام غالبية العالم التي تتمنى رحيله المبكر، لا ينبئ خيراً. فالأسد فقد أصدقاء كثراً كان قد نجح في حشدهم خلال العقد الأول من حكمٍ ورثه عن والده. وها هو اليوم من دون أصدقاء في العالم العربي والغرب، إذ أصبحوا خصوماً يشارك بعضهم في إطار قوات التحالف الدولي التي تشنّ غارات على مواقع «داعش» و «النصرة» المتطرّفين. وفي الواقع، هناك معلومات حول وجود عناصر من القوات الخاصة (كوماندوس) من التحالف في شمال سورية تشرف على تدريب قوات المعارضة الوطنية، تمهيداً لخوض مواجهة مع قوات الأسد.
قد يستفيد الأسد من التفاهم الأميركي – الروسي ويمد من عمر إدارته بعض الوقت، لكن هذا التفاهم من المنتظر أن تليه ترتيبات تحدد «خريطة طريق» تمهد لقيام إدارة جديدة في سورية لا يكون الأسد ضمنها. من الصعب تخيّل أن يبقى حاكمٌ خاض حرباً أدت إلى قتل نحو 280 ألفاً من مواطنيه وإلى تحويل أكثر من نصف السكان إلى لاجئين ونازحين، في منصبه لفترة طويلة. إن أفضل ما يمكن أن يقوم به رعاة نظام دمشق هو تهيئته للرحيل، فنهاية حكم سلالة الأسد آن أوانها.