في الرابع من شهر حزيران/يوينو 2013 أصدرت لجنة تحقيق دولية مستقلّة، عملت بتكليف من الأمم المتحدة لتقصّي الحقائق في سوريا في وطأة تعاظم العمليات الحربية المتواصلة منذ عامين، أصدرت بيانها الذي يشير بإصبع الاتهام إلى النظام السوري الذي استهدف ـ عمداً ـ المناطق السكنية المدنية بهجمات منهجية واسعة النطاق استخدم فيها سلاح المدفعية الثقيلة وصواريخ سكود والطيران الحربي مرتكباً مجزار تحمل وصمة الجرائم ضد الإنسانية. هذا، وتدور رحى هذه المقتلة على مشهد واطلاع من دول العالم الديمقراطي المتمدّن، بما فيها مجموعة دول أصدقاء الشعب السوري، دون أن تتوفّر النوايا الحقيقية لدى الدول الكبرى، التي تشكّل حلقة مجلس الأمن في الأمم المتحدة، من أجل التدخّل لوقف مديد الدم في سوريا بالرغم من صدور هذا التقرير مؤخراً.
ليست سوريا والسوريون وحدهم المصابين بهذه الجائحة العنفية، بل دول الجوار أيضاً، نتيجةً لتدفّق اللاجئين السوريين بأعداد هائلة إليها، وكذا تعرّضها لاختراقات أمنية وعسكرية عبر حدودها كما يدور من وقت لآخر عبر الحدود السوريّة مع الأردن، لبنان، العراق وتركيا.
الولايات المتحدة تتابع وتدرك حجم هذه الكارثة الإنسانية غير المسبوقة منذ اندلاع الحرب الأهلية في راوندا، وكان بإمكانها أن توجّه ضربات جوية سريعة، أو صاروخية من المياه الإقليمية حيث تتجوّل أساطيلها، إلى مفاصل النظام الأمنية والعسكرية وقواعده الجوية الرئيسة في العاصمة، ضربات مكافئة لتلك التي استهدفت مركزاً للبحوث العسكرية خلف جبل قاسيون ومخازن صواريخ الفاتح-110 التي كانت في طريقها عبر سوريا إلى حزب الله فجر5 أيار/مايو 2013. وكان بإمكان هكذا تدخّل جراحي مستهدفاً مراكز انطلاق الهجمات النظامية السورية ضد المدنيين السوريين، أن يحسم المعركة لصالح الثورة في ساعات معدودة منقذاً أرواح مئات من المدنيين الذين يتساقطون كل يوم، ومنذ عامين، بفعل غارات الجيش النظامي الجوية، وحملاته الأرضية الهمجية، التي لم تبقي ولم تذر.
الرئيس باراك أوباما يعرف تماماً أنه بإمكانه القيام بذلك دون أن يجازف بحياة جندي أميركي واحد على الأرض كما جازف سابقه الرئيس بوش في العراق، وخطة الجنرال مارتن ديمبسي، رئيس الأركان الأميركية، واضحة ومفصّلة، وهي في متداول أصحاب القرار في الأروقة السياسية الأميريكة ووصلت أخيراً إلى التداول تحت قبة الكونغرس حيث القرار يتّخذ من ممثلي الشعب الأميركي ويكون عندها نهائيا ليرفع للتوقيع في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض. إلا أن أوباما ودائرته لا يرغبون في اتخاذ قرار في التدخّل المباشر في سوريا تجنّياً لتسميم العلاقات الثنائية الروسية الأميركية أكثر ما هي مسمّمة، والتي جاء إلغاء القمة بين رأيسي الدولتين العظمتين أخيراً، أوباما وبوتين، ليشكّل ذروة التوتير بين هذه البلدين الأعظمين ولا سيما أن هذا الإلغاء لم يحدث منذ العام 1960 عندما ألغيت قمة بين الرئيسسين في ذلك الوقت، أيزنهاور وخروتشوف، بسبب إسقاط طائرة تجسّس أميركية من قبل الروس. ومن جانب آخر فإن الولايات المتحدة التي دخلت في علاقة مشحونة وصدامية ـ مع وقف التنفيذ ـ مع إيران منذ أزمة الرهائن الأميركيين عام 1997 وصولا إلى التخدل السافر والمباشر لحزب الله في المعارك الدائرة على الأراضي السورية، لاتريد ان تدخل ي مواجهة مباشرة مع إيران ولاسيما أن الولايات المتحدة مازالت لا تعرف على وجه الدقّة حجم القدرة النووية الإيرانية بسسبب توزّع المواقع النووية الإيرانية على مساحة تقدّر بمليون ونصف كم مربع، والرئيس أوباما، بذهنيته السياسية المعروفة، يتجنّب الدخول في أية مغامرات في الشرق الأوسط إثر مغامرات أميركا الدونكيشوتية في العراق وأفغانستان وباكستان أيضاً.
ولن ننسى في هذا الحيّز العامل الأهم لضبابية الرؤية والقرار الأميركي والذي مردّه اختلاط الأوراق الميدانية على الأرض السورية، وتعدّد الفصائل المقاتلة هناك، بين إسلامية معتدلة وأخرى متشدّدة، وبين القوى الثورية المقاتلة في ألوية الجيش الحرّ التي هي مزيج من العسكريين المنشقين عن النظام والثوار المدنيين الذين انضموا إلى كتائبه وأغلبهم من العلمانيين أو الليبرالين. فتداول وسائل الإعلام نبأ اقتراب الإعلان عن “الدولة الإسلامية العراق والشام” ضمن المناطق التي يسيطر عليها المتشدّدون الذين يريدون تأسيس دولة الخلافة المبنية على حكم الشريعة حصراً، والهجمات التي يتعرض إليها الكرد في مناطقهم من قبل قوات الدولة الإسلامية والتي أدّت بالرئيس مسعود برزاني إلى إعلانه الخطير بأنه سيتدخل مباشرة لحماية كرد سوريا أو ما يسميه “إقليم غرب كردستان” من هجمات “الإرهابيين”، هذه العوامل مجتمعة تجعل من تذبذب القرار الأميركي أمراً يصب في تخوّف أميركا من أن يطال أي قرار تتخذه للحسم العسكري في سوريا مصالحها القومية والاستراتيجية وخصوصاً في العراق وإقليم كردستان الذي افتتحت فيه قنصلية لها قبيل انسحاب جيوشها ـ وليس مؤسساتها ـ من العراق في ليل.
وتفيد التقارير الأمنية والميدانية أن الدولة الإسلامية في العراق والشام تفرض عقيدتها في مناطق نفوذها الكبرى في الشمال، وهو إرث سياسي اعتنقته نتيجة لتجربتها المعقّدة في العراق، والتي مرجعها حكم الشرع المفروض من رأس الهرم السياسي. بينما عقيدة “جبهة النصرة” تؤكد على أهمية المشاركة الاجتماعية عبر قاعدة من المؤيدين للتأسيس لحكم الشريعة والدعوة الكثيفة لها بين أطياف المجتمع كافة. هذا التفاوت في البعد العقائدي بين الفصيلين الإسلاميين المتشدّدين يواكبه تنافر استراتيجي في الرؤية السياسية، ففي حين لا تمانع قيادات الدولة الإسلامية من بقاء النظام السوري وتجد نفسها قادرة على إعلان “دولتها” بمعزل من بقاء النظام أو رحيله، فإن الهدف الأساسي لمقاتلي جبهة النصرة يرتكز على إسقاط النظام أولاً، ويربط مشروعه السياسي بزوال نظام الأسد.
أما المسألة الكردية فتبقى “بيضة القبّان” التي ستكون عاملاً حاسماً في تحديد الجغرافيا السياسية لسوريا ما بعد الثورة. فإثر فراغ في السلطة في المناطق الكردية في الشمال والشمال الشرقي السوري، قام حزب الاتحاد الديمقراطي، وهو حزب كردي سوري يعمل بالتوازي مع حزب العمال الكردستاني، قام بالسيطرة على مناطق واسعة شمال سوريا ودشّن فيها ما يشبه الإدارة الذاتية. جاء هذا التحرّك مدعوماً بثلاثة محاور سياسية أولها زيارة لافتة لرئيس حزب الاتحاد الديمقراطي، صالح مسلم، إلى إيران بدعوة من الخارجية الإيرانية، حيث تلقّى دعماً سياسياً من طهران بالحق “المشروع” لكرد سوريا بإقامة “إدارة مدنية انتقالية” كما صرّح مسلم حال عودته. واعتمدت إيران في قرارها هذا على أن الطرفان، الكردي السوري والإيراني، “يواجهان عدواً مشتركاً يتمثّل في القوى التكفيريّة المسلحة في سوريا”، كما نقلت كالات الأنباء. أما المحور الثاني فانجلى في تصريحات رئيس أقليم كردستان العراق، مسعود البرزاني، الذي شدّد على أنه سيتدخل لحماية ما أطلق عليه “غرب كردستان” في شمال وشمال شرقي سوريا من الهجمات التي يتعرّض لها الكرد هناك. أما المحور الثالث فكان في الموقف الرسمي التركي الذي يدعم بالعتاد والعدّة الكتائب الإسلامية المقاتلة في سوريا والذي تطوّر بسرعة شديدة لجهة إنهاء الحرب الطويلة مع أكراد تركيا، ممثلين بحزب العمال الكردستاني، وذلك حتى تتفرّغ حكومة أنقرة للتعامل مع الحالة الكردية السورية المستجدّة عبر الحدود
وفي عودة رجعية إلى مصطلحات ومواقف الحرب الباردة بين روسيا والولايات المتحدة والتي يدعمها الجفاء السياسي الكبير بين الدولتين الأكثر تأثيراً في المواقف الدولية وقراءتها لإحداثيات الأزمة السورية المستطيرة، وفي حملة سياسية روسية لإضعاف الموقف الأميركي، دولياً وإقليمياً، وكسر مجاذيفه، والتي ترمّزت في منح عميل الاستخبارات المركزية الأميركي، إدارد سنودن، لجوءاً سياسياً في روسيا، بكل ما يحمله هذا الإجراء من تحدٍّ عميق للولايات المتحدة يتجاوز علاقة البلدين الدبلوماسية والسياسية إلى عمق ملفات الأمن القومي الأميركي، وفي ضوء تعزيز روسيا موقعها في دمشق، حيث تنافس الولايات المتحدة في إنشاء سفارات بحجم “مدن” مصغّرة إثر منحها أرضاً شاسعة في منطقة المزة الراقية في العاصمة دمشق حيث تجري أعمال تشييد سفارتها الجديدة التي ستكون أكبر سفارة روسية في الشرق الأوسط على المستويين الأفقي الدبلوماسي، والعامودي الاستخباراتي. نتيجة لما تقدّم ذكره، فإن الولايات المتحدة التي يعاني رئيسها من أخفض مستوى في شعبيته منذ انتخابه الأول في 2008، بينما يرتفع مستوى البطالة إلى أعلى مستوياته في ظل وضع اقتصادي خانق، يمكن أن تقبل بنموذج أفغانستان أو عراقستان كمرحلة قادمة لتشكيل جيوسياسي سوري يقوم على الاقتسام العرقي والطائفي والديني للأرض والسلطات في ظل غياب أي حالة سياسية مدنية ناضجة بديلة وانهيار متسارع لمفاصل الدولة السورية، وذلك في “تقيّة” سياسية استثنائية، تنأى بها عن أي ضرر معنوي أو مادي يمكن أن يطالها من تدخّل مباشر في الشأن السوري البليغ التعقيد، ومستثمرة في الوقت عينه فوضى السلاح والفصائل الإسلامية المتناحرة على مذهبيها الشيعي والسنّي وولاءاتها السياسية للقاعدة أو لملالي طهران لتصفّي بعضها بدم بارد، في مقاربة أميركية لمثل عربي (فخّار “المتشدّدين” يكسّر بعضه).