مرح البقاعي: سلام الكرد وحروب العرب

Share Button

Merehشكّل انسحاب مقاتلات ومقاتلي البيشمركة الأشدّاء من الأراضي التركية باتجاه إقليم كردستان العراق ـ مسقط الرأس ـ إثر نداء وجّهه الزعيم عبد الله أوجلان من زنزانته إلى مقاتليه، رجالاً ونساء، في مطلع شهر أيار/مايو الماضي، يدعوهم إلى وقف العمليات الحربية والانسحاب من الأراضي التركية بغية الشروع في عملية السلام مع تركيا، شكّل مشهداً درامياً لافتاً يضاف إلى سلسلة الأحداث التي تمرّ بها المنطقة ولكن في اتجاه معاكس. فبينما اندلعت الاحتجاجات والثورات السلمية والمسلّحة في غير مدينة وناحية وموقع من البلاد العربية نجد قوات البيشمركة العريقة في حروبها ونضالها المسلّح، الذي يهدف إلى استعادة الكرد لسلطتهم على الجغرافيا الكردية، النضال الذي احتدم إثر انهيار الحكم العثماني وإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط في حينها، نراها ترخي- راضيةً ـ السلاح لتعلن ولوجها زمن السلم الكردي بعد تقديم 45 ألف قتيل منذ أعلنت الكفاح المسلّح عام 1984 بهدف الاستقلال بأقليمها وإنهاء حالة الدياسبورا الكردية.

انفردت قوات البيشمركة بكتائبها النسائية التي تشكّلت على خلفية إعدام صدام حسين للمناضلة الكردية ليلى قاسم عام 1974. وباشرت المقاتلات فور تشكيل فرقتهن مساندة الفرق الكردية في مقاومتها لنظام صدام حسين سعياً لتحرير الإقليم الكردي في العراق من استبداد الحكم المركزي وعنف لواء الأمن التابع لبغداد ذاك الوقت. وكانت المهمات الموكلة للمقاتلات تتراوح بين تهريب السلاح وتوزيع المناشير وتنفيذ العمليات القتالية وأحياناً عمليات الاغتيال، علماً أنهن شاركن في العمل المدني من الرعاية الميدانية للجرحى والرعاية الاجتماعية من خلال إقامة دورات محو الأمية والتريب المهني وغيرها من نشاط الحراك المدني الذي يوازي العمل الحربي ويكمّله.

مشهد المقاتلات بقامتهن الفارعة وضفائرهن المديدة وهن يغادرن الأراضي التركية، بلباسهن العسكري وكامل سلاحهن، متجهات إلى جبال القنديل في العراق، إنما يعكس الواقع الكردي الجديد الذي يجنح إلى تأسيس إقليم كردي مركزه كردستان العراق بامتداده التاريخي في دول الجوار: سوريا وتركيا وإيران. إقليم له مقومات الدولة ويتمتع بالسلم مع جيرانه رغم غليان الأرض ضمن محيطه المشتعل بنار ثوراته والمهدّد بانقسامات طائفية ومذهبية قد تتجاوز الانقسام العقائدي إلى تطبيقاته الجغرافية الانفصالية في حال استمرا ر الاحتقان السياسي بين الفئات المتنازعة ولا سيما في العاصمة بغداد.

وقد لعبت قوات البيشمركة أخيراً دوراُ لافتاٌ هو أقرب إلى قوة حفظ أمن وفك اشتباك منه إلى مهماتها التقليدية القتالية، وذلك إثر اندلاع اشتباكات بين المعتصمين في ساحة الأنبار التي أطلق عليها المنتفضون على نظام المالكي والمطالبون بإسقاط حكومته: ساحة الحرية والكرامة، وبين الجيش العراقي الذي اقتحم الاعتصام المدني في واقعة الحويجة الأليمة بأسلحته الثقيلة موقعاً عشرات من الجرحى والقتلى. ويعتبر هذا الدور الاستثنائي للبيشمركة تحوّلاً نوعياً في طبيعة هذه القوات والأهداف التي أطلقت من أجلها، وتأكيداً على التحوّل التاريخي في المنطقة حيث سيشكّل المكوّن الكردي عنصراً ضامناً للأمن بعد أن كان الجهة المثيرة للزوابع والهزات الإقليمية التي أدار رحاها القائد عبد لله أوجلان قبل اعتقاله في سوريا وتسليمه إلى تركيا حيث حُكم عليه بالسجن مدى الحياة.

أما لجهة خاصرة الإقليم الإيرانية فإن الطموح الكردي سيتأثر مباشرة بالانتخابات الرئاسية الإيرانية المقبلة وما يترتب على نتائجها من ردود فعل شعبية قد تصل في حال نجاح رئيس من المتشدّدين إلى ما يمكن أن يكون الربيع الفارسي في إيران التي ما زات تعضّ الجرح على ثورتها الخضراء منذ إخمادها بعنف مبالغ من قبل قوات الباسيج التي أطلقها أحمدي نجاد على المتظاهرين السلميين عام 2009. وستنعكس خلخلة الركود السياسي في طهران إيجاباً على الطموح الكردي في مناطقه التاريخية في غرب إيران.

وفي سوريا حيث يعيش الكرد في الشمال الشرقي من البلاد وفي الشريط المحازي لتركيا في محافظتي إدلب واللاذقية غرب سوريا، وإثر اندلاع الثورة السورية الماجدة ومشاركة الكرد فيها من دون أن يحصلوا على تمثيل سياسي قوي وفاعل ضمن أجسام المعارضة المتعاقبة والمتناحرة أصلاً فيما بينها والتي ليس آخرها الائتلاف، نستطيع أن نلحظ الخيبة الكردية من أداء أطراف المعارضة السياسية التي جعلت من المشاركة الكردية عملاً “ترقيعياً” إرضاء لجهات دولية طالما طالبت المعارضة بإيلاء الأقليات حقوقها ومواقعها في الهيئات السياسية، حيث غُيّبت القوى الكردية المؤثرة والحقيقيةعن مواقع اتخاذ القرار. هذا ناهيك عن أن الاعتراف بالحقوق المشروعة للكرد ضمن دولة المواطنة المرتقبة كان اعترافاً خجولاً لا يجاهر بحق الكرد الطبيعي في إدارة محليّة لمناطقهم، وفي ممارسة ثقافتهم ولغتهم في ظل اللغة العربية الأم للدولة السورية وتحت مظلة اللامركزية الإدارية لسوريا الجديدة.

هكذا يرتبط سلام البيشمركة الوليد بخط عالي التوتر هو الراسم الفعلي للخرائط المناطقية الجديدة فيما يطلق عليه: سايكس بيكو 2، رافعاً شحنات الطموح الكردستاني إلى أقصاها في تحقيق دولة كردستان الكبرى، من جهة، ومُشعلاً دول الجوار بحمى الاقتتال الطائفي الذي يودي إلى شرعنة الانقسامات الفطرية إلى دويلات وكانتونات تتأسس على مرجعية الطائفة أو المذهب أو العرق، من جهة أخرى.

ففي الوقت الذي تتفكك فيه سوريا والعراق تحت نار وحديد الطغيان العنفي الذي يمارسه رجلا إيران في البلدين: بشار الأسد ونوري المالكي، وفي حمأة فوضى السلاح وتنازع الفرقاء حول زمام القيادة ومرجعياتها، وفي غياب العمل الوطني المنزّه عن الانتماءات العقائدية والحزبية والطائفية، نجد في الطرف الآخر من المعادلة الديمغرافية تجربةً للسلام تخوضها أعتى حركات التحرّر عقائدياً من “الذين يواجهون الموت”، وهي الترجمة العربية لاسم البيشمركة، وتجنح إلى توحيد البندقية تحت لواء الجيش الوطني سعياً للانتقال إلى سدّة العمل السياسي بعد أن أتى العمل الحربي أُكُله.

فصل المقال يكمن في درس من التاريخ المعاصر سجّلته واحدة من أعتى حركات المقاومة في العالم، وهي حركة الشين فين أو الجيش الجمهوري الإيرلندي، حين ألقت جانبا سلاحها، الذي حملته لعقود من عمر المقاومة، فَوْرَ دخولها العملية السياسية لنيل حقوقها المشروعة التي حملت السلاح أصلاً من أجلها، وذلك إثر أن وجّه جيري آدمز رئيس الجناح السياسي للجيش الجمهوري الإيرلندي في العام 2005 رسالة إلى وحدات الجيش الجمهوري الإيرلندي يدعوها إلى “إلقاء السلاح” ويطلب من المتطوعين “المساعدة في تطوير برامج ديمقراطية وسياسية خالصة من خلال العمل السلمي حصراً”.

الذين يواجهون الموت هم على موعد اليوم مع حجل السلام محلّقاً فوق كهف شانه در حيث مسقط رأس الإنسان الأول في سفوح جبال زاغروس المديدة.. فوداعاً للدم وأهلاً بالشمس.

 

 

Share Button

عن PDPKS

x

‎قد يُعجبك أيضاً

صدور العدد 84 من جريدة التقدمي

صدر العدد (84) من جريدة التقدمي الشهرية الصادرة عن مكتب الثقافة و الاعلام في منظمة ...