الدولة ظاهرة اجتماعية معقدة، تطورت عبر التاريخ البشري وتبدلت وظائفها وسماتها، ومصطلح “الدولة” من المصطلحات العصية على الضبط والتعريف، فعلى الرغم من شيوعه وكثرة استخدامه على الألسن، إلا أن الفقه القانوني، على الرغم من محاولاته منذ القدم، لم يستطع إيجاد تعريف موحد للدولة حتى وقتنا الراهن، فالتعاريف المطروحة متباينة ومختلفة بسبب اختلاف الزاوية التي ننظر منها إلى الدولة.
حاول الفلاسفة الإغريق وضع تعريف للدولة، فقالوا إنها ذلك المجتمع من الأفراد الذي يؤلف بغية تحقيق مصلحة عامة، وقد عرفها ميكيافيللي بأنها تلك المنظمة المخولة بما تملكه من سلطة فعلية للتحكم في استعمال القوة على شعب معين في إقليم معين.
استمرت محاولات الفقه الحديث لوضع تعريف موحد للدولة، لكن بلا جدوى، فقد عرفتها الأمم المتحدة بأنها الكيان السياسي والقانوني الذي يثبت وجود شعب يقيم على إقليم معين، ويتمتع بسيادة تامة، وله حكومة مستقلة. ولعل هذا التعريف هو الأقرب للإقناع، على الرغم من الملاحظات الكثيرة حوله لدى مجموعة من الفقهاء والفلاسفة، الذين حاولوا بيان مفهوم التجريد القانوني في الدولة، أو انفصال البنية القانونية للسلطة عن الأشخاص الحاكمين، وتقع في هذا السياق الأبحاث الرائعة التي قدمها الفقيه النمساوي هانز كيلسن عن مفهوم النظام القانوني، وكذلك تلك التي نشرها مؤخراً الفيلسوف الألماني يورغان هابرماس عن مفهوم الوسط القانوني، وعقلانية ظاهرة الدولة، باعتبارها ظاهرة مصطنعة، وليست نتيجة التطور الفطري الطبيعي.
لسنا في صدد شرح نظريات تعريف الدولة أو بيان أركانها، لكننا نحاول لفت النظر إلى مسألة على درجة كبيرة من الأهمية، وهي مفهوم البنية القانونية والإدارية للدولة السورية، وضرورة التمييز والفصل بين السلطة الدولة، باعتبارها ظاهرة اجتماعية تتمظهر بمجموعة من الجوانب القانونية والإدارية.
بالمعنى القانوني، بدأت الدولة السورية في عام 1925، واستمرت حتى وقتنا الراهن، وخلال هذه المدة تراكمت مجموعة من القوانين والتنظيمات الإدارية والمؤسسات العامة، بحيث يمكننا أن نميز بوضوح بين السلطة والدولة من خلال تشخيصنا لهذه البنية القانونية الإدارية للدولة السورية.
لقد استولى نظام البعث على الدولة، وحاول أن يستخدمها لتحقيق مصالح السلطة الحاكمة بغض النظر عن المصلحة العامة، حتى وصلنا إلى لحظة التماهي الكامل بين الدولة والسلطة المشخصنة في شخص واحد هو رئيس الدولة.
عندما قامت الثورة السورية كان أحد أهم شعاراتها “سورية لنا وليست لبيت الأسد”. هذاالشعار المكثف برمزيته، يدل على شعور جمعي عند المواطنين السوريين، يتمثل بإحساسهم أن الدولة السورية مختطفة من جانب هذا النظام، وهم يريدون من الثورة أن تعيد لهم دولتهم، باعتبارهم هم الذين يملكون الدولة، وليس أي نظام حاكم.
كان واضحاً منذ البدء هذا التمييز بين الدولة والنظام في رؤية المواطنين، ولكن للأسف مثل هذا التمييز لم يكن في أذهان بعض السياسيين المعارضين الذين خلطوا بين مفهوم الدولة السورية ومفهوم النظام، حتى بات كل شيء يدل على النظام، فالقانون هو قانون النظام، ولذلك لن نعترف به، والنشيد الوطني هو نشيد النظام، ولذلك لن نعترف به، والإدارات العامة هي إدارات النظام، ولن نعترف بوجودها.
ولذلك حاول البعض أن يبني ما يسمى بالدولة الموازية من دون وجود منظومة قانونية متفق عليها، ولعل ما زاد الأمر سوءاً هو ورود مادة في النظام الأساسي للائتلاف تنص على تشكيل حكومة مؤقتة.
لقد شاع في بدايات تأليف الائتلاف الوطني أنه بمجرد الإعلان عنه، سيتم سحب الاعتراف من حكومة النظام باعتبارها تمثل الدولة السورية، وفعلاً اتخذت جامعة الدول العربية قراراً بهذا الشأن في شهر آذار من عام 2013 يقضي بتسليم مقعد سورية في الجامعة العربية للائتلاف شرط تشكيل هيئة تنفيذية. وعلى هذا الأساس تم تأليف حكومة مؤقتة لتكون هي الهيئة التنفيذية التي ستتسلم مقعد سورية، لكن قرار قمة الكويت في آذار من عام 2014 تراجع عن هذا التسليم، ورفضت الجامعة العربية تسليم المقعد للمعارضة.
إن تغير الأحوال، وتغير المعطيات الدولية يتطلب من الجميع إعادة النظر في وجود ما يسمى بالحكومة المؤقتة، لأن وجودها في الأوضاع الحالية قد يشكل خطراً على وحدة ووجدود الدولة السورية. لذلك، فإن عدم مراجعة هذا الأمر من جانب الائتلاف قد يكون له نتائج وخيمة، ولا يجوز أن نساير أحداً في هذا الأمر أو نخجل من مراجعة موقفنا، وفقاً للمعطيات الجديدة، ولمواقف الدول الإقليمية والعربية والعالمية.
اليوم نرى أن هناك اتفاقاً بين ثلاث قوى متناقضة على مسألة واحدة هي تفكيك الدولة السورية، النظام الذي يعمل على تفكيك بنية الدولة، وضرب مفهوم المؤسسات بشكل كامل، وبعض المعارضة التي أعجبتها ألقاب دولة الرئيس ومعالي الوزير، فلم يعد يهمها سوى هذه الألقاب بغض النظر عن تأثيرها الخطر على وجود الدولة السورية المركزية، وبعض القوى العالمية التي تسعى لإعادة المجتمع السوري إلى مكوناته الأولية ما قبل الدولة، وفي هذا السياق تندرج خطة “ديمستورا” وموضوع الإدارات الذاتية للمناطق، التي تلغي عملياً مفهوم الدولة الواحدة.
لعلنا نفهم رغبة النظام والقوى العالمية باعتبارهما غير معنيين بالدولة السورية، لكننا لا يمكن أن نفهم هذا الإصرار على الخطأ من جانب بعض المعارضة، وسواء كان هذا الأمر عن جهل أو عن طموح شخصي بالألقاب الحكومية أو عن تعمد في بعض الأحيان، فإنه سلوك خطر جداً، ولا سيما إذا عرفنا أن هناك محاولات كاملة تمت لتغيير القوانين السورية، واستبدالها بقوانين أخرى، خاصة قانون العقوبات وقانون الأحوال الشخصية، فضلاً عن إنتاج مؤسسات تعمل بنظم قانونية متناقضة، ولا تمت للبنية القانونية والإدارية للدولة السورية بأي صلة.
لقد خرج المواطنون السوريون وهم يهتفون بصوت واحد “سورية لنا وليست لبيت الأسد”، لكن يبدو أن بعض المعارضين قد جاؤوا إلى المعارضة وهم يهتفون “تعالوا نفكك الدولة”.