لا يفيد وليس من المجدي المكابرة أو الإنكار، فثمة مسألة كردية في سورية، تضاف إلى جملة المسائل أو التحديات، التي يقف في مواجهتها السوريون، لإعادة بناء إجماعاتهم ودولتهم وتعريفهم لذاتهم، علماً أن الأكراد هم جزء من النسيج الاجتماعي لسورية المعروفة، أي أنهم ليسوا وافدين، ولا هابطين من المريخ، ثم أن هؤلاء جزء من شعب حُرم من حقه في إقامة دولته القومية، بنتيجة اتفاقات ما بعد الحرب العالمية الأولى، وفوقها تعرّض للتجزئة، والحرمان من الهوية، وحتى من حقوق المواطنة المتاحة.
هكذا يظهر لنا أن ثمة إشكاليتين، وكل مشكلة منهما تفتح على مشكلة أخرى، سواء بحلها أو بعدم حلها، الأولى تتعلق بانتماء أكراد سورية للشعب السوري، مع تبعات كل ذلك بما لهم وما عليهم. والثانية تتعلق بانتمائهم إلى شعبهم، المقسم بين عدة دول (إيران وتركيا والعراق وسورية)، مع ما يستوجبه ذلك من تداعيات والتزامات.
وفي الواقع فإن هاتين الإشكاليتين تطرحان على أكراد سورية مهمة تحديد ذاتهم، أو تعريف هويتهم. ومثلاً، فإن اعتبارهم أنفسهم جزءاً من الشعب السوري يستوجب منهم التصرف على هذا الأساس، من دون أي اعتبار آخر، مع حقهم في الحفاظ على هويتهم وخصوصيتهم القومية وشعورهم بالانتماء إلى قومية أوسع، ومع حقهم بالمساواة مع سائر المواطنين، ومن ضمن ذلك مشاركتهم في تقرير شكل النظام السياسي وصوغ الدستور والحكم.
في المقابل فإن تغليب اعتبارهم لذاتهم جزءاً من الشعب الكردي، على حساب انتمائهم إلى الشعب السوري، مع استخدام أعلام ورموز خاصة، وتبني طموحات دولتية فوق سورية، تحمل سمات هوياتية ـ قومية، فإن هذا يعني افتراقهم عن الشعب السوري، بمعنى أنه لا يمكنك وأنت تقول بدولة كردية، أو باعتبارك جزءاً من أراضي سورية بمثابة جزء من دولة كردية مستقبلية، التورية بادعاء أنك لا تطالب بالتقسيم أو أنك تقف مع الثورة السورية، أو مع وحدة سورية.
بديهي أن من حق الأكراد تبني الهدف الذي يريدون، فهذا جزء من الحرية، وجزء من حق تقرير المصير، وقيم المساواة والعدالة، لكن ذلك الحق لا يمنع طرح المخاوف التي تفيد بأن هذا الانزياح ينم عن تسرّع، أو قد لا يكون مناسباً في هذه الظروف، وأن مثل هذا الأمر قد يفضي إلى وضعهم في مواجهة سعي الشعب السوري إلى الانعتاق والتحرر من ربقة النظام، والإثقال على ثورته، وطرح مخاوف التقسيم، أو من خلال التسهيل على القوى الدولية والإقليمية التلاعب بهم، والعبث بثورة السوريين من خلالهم، واستخدامهم كأداة في مواجهة دولة إقليمية مثل تركيا، بالنظر إلى علاقات «حزب الاتحاد الديموقراطي» (الكردي ـ السوري) بـ «حزب العمال الكردي» في تركيا (بزعامة أوجلان).
بيد أن المشكلة هنا لا تتعلق بالأكراد فقط، ولا بـ «حزب الاتحاد الديموقراطي» (بزعامة صالح مسلم) وإنما تتعلق بالمعارضة أيضاً. فإذا سلمنا أن من حق الأكراد الاطمئنان إلى مستقبلهم كجماعة قومية، وضمان عدم العودة إلى علاقات التذويب أو المحو، والحرمان من الهوية والحقوق، ففي المقابل من حق المعارضة أيضاً، التخوّف من أي مشاريع توظّف المخاوف الكردية باتجاه تقسيم البلد، ما يفيد بأن الطرفين معنيان بإزالة المخاوف والشكوك المتبادلة، ومعنيان بالتوصل إلى قواسم مشتركة.
المشكلة أن هذا النقاش لا يحصل بطريقة سليمة، وبقصد الوصول إلى تفهّم متبادل، أو إلى إجماعات أو قواسم مشتركة، وإنما يحصل كأنه في ساحة حرب بين معسكرين أو خندقين متواجهين، الأمر الذي يصبّ في مصلحة النظام ويظهر الأطراف الأخرى باعتبارها ليست أهلاً للثقة، أو يظهر افتقادها إلى الأهلية والمسؤولية. طبعاً قد يمكن تفهّم ما يجري باعتباره جزءاً من أعراض الانفجار السوري، ومما يمكن اعتباره جزءاً من حرب أهلية سورية، دخلت على واقع الثورة، بغض النظر عن مقاصده، حيث ثمة ضحايا في مواجهة ضحايا، لكن استمراء هذه الحالة، وتكريسها، لا يفيد الأكراد ويضر بالمعارضة ويضعف صدقيتها بخصوص تصورها لسورية المستقبل. والمعنى أن الأسئلة بخصوص المصير والمستقبل السوريين تخص جميع مكونات السوريين، فالجميع معنيون بهذا النقاش، إذا أردنا أن نبني سورية الجديدة لكل السوريين، بمختلف ألوانهم وهوياتهم الإثنية والطائفية والمذهبية والأيديولوجية.
الآن ثمة أسئلة يمكن طرحها على المعارضة، مع تفهّم تخوّفها من المشروع الكردي الفيديرالي، وملاحظاتها المشروعة على ممارسات «قوات حماية الشعب»، والإدارة الذاتية، ومثلاً، لماذا لم تتم مجابهة مشروع «جبهة النصرة» وأخواتها، وهي المحسوبة على تنظيم «القاعدة»، بنفس المعارضة والتخوف، على رغم أن هذه لا تحسب نفسها على الثورة السورية ولا تعترف بمقاصدها، ولها مشروعها وعلمها الخاصان، فضلاً عن أنها قاتلت «الجيش الحر» وتحاول فرض طريقتها في الحياة على مجتمعات السوريين في المناطق التي تسيطر عليها؟ ثم ألم يكن مشروع الجماعات الإسلامية المسلحة من «النصرة» إلى «أحرار الشام» إلى «جيش الإسلام» انشقاقاً وافتراقاً، بمعنى ما، عن ثورة السوريين ورفضاً لمقاصدها المتعلقة بإقامة نظام يتأسس على الحرية والديموقراطية؟ أيضاً، هل المناطق «المحررة» التي تخضع للجماعات الإسلامية المسلحة، مثل «النصرة» وأخواتها هي في وضع أفضل من المناطق التي تخضع لقوات «حماية الشعب» على صعيد الحريات والإدارة والعلاقة مع المجتمع؟ وأخيراً هل تستطيع قوى «الائتلاف الوطني» أو النشطاء المدنيون التواجد والنشاط في تلك المناطق «المحررة» مثلاً، علماً أن رئيس الحكومة الموقتة مُنع قبل فترة من دخول هذه المناطق؟
القصد من طرح هذه الأسئلة التوضيح أن ثمة معايير مزدوجة في التعامل مع إشكاليات الحالة السورية، وأن ثمة عدم وضوح في الرؤية السياسية للمعارضة، وضعف تبصّر لكيفية التعامل مع هذه الإشكاليات وكيفية حلها. ولعله ضمن هذا الإطار يأتي التعامل مع المكونات السياسية الكردية، ومن ضمنه التعاطي مع فكرة الفيديرالية. وفي الواقع فقد كان الأجدى للمعارضة السورية عدم الاعتراض على فكرة الفيديرالية، لأن هذه لا تعني البتّة التقسيم، ولا الكونفيديرالية، بل إنها تعني وحدة جغرافية وسياسية واقتصادية مع نظام سياسي أكثر إنصافاً وعدالة لمناطق البلد. ولأن الفيديرالية هي أحد الأجوبة الضرورية لتقويض نظام الاستبداد في سورية، وضمان عدم إعادة إنتاجه من جديد، ولأنها النقيض لفكرة التمركز والمركزية التي تفضي إلى تهميش الأطراف، وخلق حالة من النمو المتفاوت والمشوه بين مختلف المناطق السورية. وهذا يفيد أن النقاش بخصوص الفيديرالية وغيرها، لا يتم بصورة سليمة، أو مجدية، وأنه ينطلق عند المتعاطفين في المعسكرين بطريقة عصبية، وهوياتية، وهذا لا يخدم النقاش ولا يخدم فكرة سورية واحدة لكل السوريين.
على ذلك، وبغض النظر عن هذا الانحراف أو الخلط في النقاش، فقد يمكن تفهّم حق الأكراد في تقرير المصير، أو في الحكم الذاتي، أو أي تصور آخر، فهم لم يهبطوا بالمظلات، وهم جزء من النسيج الاجتماعي لهذه المنطقة عبر التاريخ، لا سيما لمن يتغنّون بصلاح الدين الأيوبي، مع ذلك لا بد من ملاحظة أنهم في التصور المتعلق بالفيديرالية يستبقون الأمور، إذا كانوا يشتغلون أو يفكرون باعتبارهم سوريين، عدا عن أن هذا يحمل شبهات التحول إلى أداة تتلاعب بها قوى إقليمية ودولية، لا تريد الخير للسوريين. وفوق كل ذلك فإن الحديث عن فيديرالية وديموقراطية لا يستقيم مع وجود حزب مهيمن يفرض سطوته الأحادية بالقوة المسلحة، لأن هذا سيكون نموذجاً لحزب بعث آخر، مع اعتبارنا لأيديولوجية هذا الحزب المنسجمة مع نظيره «حزب العمال الكردستاني» في تركيا. أما في حال أخرى، أي في حال حسم الأكراد الأمر باعتبارهم غير سوريين، أي أكراد يريدون انتزاع دولتهم القومية، ومن ضمن ذلك ما يعتبرونه أرضهم الخاصة من سورية، في هذه الظروف الصعبة والدقيقة، فهذا شأن آخر، ويخشى أن هذا سيضعهم في مشكلة أخرى، وإزاء حروب أهلية أخرى، ووقوداً لمآرب دولية وإقليمية، بغض النظر عن رأينا بمظلومية الأكراد التاريخية، وعدالة أو مشروعية حقهم في دولة قومية، في أراضيهم المتوزعة بين إيران وتركيا والعراق وسورية.
والحال فالأجدى للسوريين، عرباً وكرداً ومن كل المكونات، البحث عن حلول لسورية المستقبل تنطوي على الفيديرالية والنظام البرلماني، بدل الرئاسي، في نظام ديموقراطي يتأسس على دولة مواطنين أحرار ومتساوين، لأن العكس من ذلك يحتمل إعادة إنتاج نظام الاستبداد والإقصاء والتهميش، وبالتأكيد فإن السوريين لم يقدموا كل هذه التضحيات من أجل ذلك.